📁 آخر الأخبار

الفصل التاسع رواية دفاتر لا تخصّك

الفصل التاسع رواية دفاتر لا تخصّك 



9ـ كأنني لم أُخلق

"في بعض الأحيان، يكون الصديق أكثر من مجرد شخص في حياتك؛ فهو ظهرك الذي تضع عليه همومك دون خوف أو شعور بالغدر. يصبح جزءًا من حياتك، ليس مجرد صديق، فوجوده يملأ حياتك بالأمان والطمأنينة."

حسنًا، إن كنت ترى نفسك فقيرًا، فأنت لم تعمل ما هو الفقر بحق، ولم ترَ مذاق الذل الذي يذوقه الآخرون. لم ترَ تلك النظرات التي تعبر عن الاشمئزاز والتكبر منهم. فلتحمد ربك، يا عزيزي، أنك لم ترَ كل تلك الأشياء.

نعم، كان الفقر ليس فقط في المال، لكن الفقر الحقيقي كان في القلب. كان هو يبيع الشوكولاتة في المترو بينما هناك من يتفاخرون بأموالهم، يُشهرون بالثراء الذي ليس له قيمة في هذا العالم، بينما هو يقف هناك، لا يملك سوى بضع قطع من الحلوى التي لا تكفي لملء معدته، ولا لمواجهة جوع الروح.

في زحام مترو الأنفاق، حيث تختلط خطوات البشر وتدافعهم، كان زياد يمر بين الركاب، يحمل كراتين الشوكولاتة الصغيرة بيده المرهقة، والتي بدأت تظهر عليها آثار الزمن. كان يمر من محطة إلى أخرى، يبيع ببعض الكلمات، في أمل أن يبيع قليلاً من تلك الحلوى، ليحصل على قوت يومه. عينيه كانت مليئة بالأسى، لكنها تخفي وراءها إرادة جبارة لا يراها أحد.

لكنه في تلك اللحظات لم يكن يفكر في مقدار المال الذي سيجنيه. كان يفكر في شيء آخر، في ذاك الفقر الذي أكل أيامه وسرق من عمره سنوات طويلة، ولم يترك له سوى الوجع. كان يبتسم حين يمر بجانب الراكب، لكن ابتسامته كانت مغلفة بالحزن، كأنها تحمل في طياتها سنوات من الصبر، سنوات من الانتظار دون أن يتحقق شيء.

"التلاتة بخمسة يا ست الكل، والله العظيم في كل حتة بـ١٠جنية هتلاقيهم في كل حتة، التلاتة بخمسة شيكولاتة بالسكوت."

كان يكرر هذا الكلام بصوت منخفض، بصوت يملؤه التعب، وعيناه لا تترك الناس، تتنقل بين الوجوه وكأنها تبحث عن شيء فقدته. ربما كانت تبحث عن لحظة تطمئن فيها قلبه، عن شخص يراه ويسمعه في هذا الزحام.

وأخيرًا، اقتربت منه امرأة، وقالت بصوت مملوء بالملل:
"لو سمحت عاوزة ستة."
قال وهو يمد يده بالحلوى، بينما قلبه يضغط على صدره كجبل ثقيل:
"اتفضلي يا ست الكل."

ثم ذهب ليتابع سيره بين المحطات، لم يبع الكثير، ولكن في داخله كان هناك شعور غريب. شعور من نوع آخر، شعور يعجز عن تفسيره.

وأثناء وقوفه على أحد الأرصفة الضيقة، تعالت أصوات الهمسات حوله، وكان يبدو أن هناك من يتحدث عنه. سمع أحدهم يقول بصوت خفيض:

"الناس دي اللي بيبيعوا في المترو، مش عارفين حتة من كرامتهم، دا الواحد عنده كرامة، ولو مرّ عليه الزمن ده، يموت أحسن."

كان هذا الصوت بمثابة السهم الذي استقر في قلبه. كان الفقر في عيونهم أشد وقعًا عليه من أي فقر مادي. لكن كان هناك شيء في داخله، في أعماقه، لم يكن يراه أحد. كان قلبه يصرخ: "أنا مش كده! أنا مش كده!" لكن الكلمات كانت تضيع، كانت تذوب في الصمت.

ولكنه، في النهاية، رفع رأسه قليلًا، وابتسم ابتسامة صغيرة، في محاولة لمقاومة هذا الواقع المُرّ.

مرت ساعة، ساعتان، وظل يتجول في المكان نفسه، بين الحشود، يبيع للآخرين دون أن يفكر في نفسه، في ضياعه، في حاله الذي لا يعرف كيف بدأ. ربما كان يرى في الوجوه التي يراها كل يوم، شيئًا من نفسه، أو ربما كان يحاول أن يهرب من نفسه، من ألمه.

أوقفه الهاتف، صوت صديقه عمرو يرن في جيبه، ليعكر عليه صمته.
"أي يا عم زياد؟ برن عليك من ساعة، ليه مش بترد؟"

أجاب بصوت غارق في التعب:
"معلش يا عمرو، والله الفون كان صامت في جيبي، المهم اتوضيت، خلينا نصلي الأول قبل الشغل."

"يا حبيبي، يلا نصلي، ربنا يبارك فيك."

ثم غادر زياد المكان سريعًا، محاولًا التخلص من تلك الهموم التي تقبض على قلبه، محاولًا البحث عن طمأنينة، ولو لحظة. ذهب إلى المسجد، ليغسل قلبه بالماء، ويضع همومه في يد الرحمن. لم يكن يهمه أن يصلي في المسجد القريب من المترو، المهم أن يشعر بسلام داخلي، يشعر أن هناك من يسمعه، من يراه في هذا العتمة.

وقفت قدماه في الصف مع عمرو، بينما الركاب يذهبون في كل اتجاه، كانوا يمرون كالسحب، لا يعيرون له انتباهًا. وعندما بدأوا في الصلاة، شعر زياد بأن شيئًا غريبًا حدث له، كأنما جاءه النور في اللحظة التي كانت عينيه تستعد لإغلاقها إلى الأبد.

"في زحام الدنيا، تظل الصلاة ملجأ القلب، حين تضيق الأرض بما رحبت، تفتح لك السماء أبوابها، وتهمس لك: هنا الأمان، هنا السكينة."

كان يعرف أنه سيظل يقاوم، رغم قسوة الحياة، رغم فقره، رغم ضياعه. كان يعرف أن هناك دائمًا شيئًا ينتظره في الجهة الأخرى من العتمة. كان يعرف أن الله لا يترك أحدًا، لا يترك عبدًا في حاله، وأنه مهما طال الزمان، ستظل الصلاة هي الأمل، هي المعين على كل شيء.

وبينما ينهض من الصلاة، شعر بشيء مختلف. ليس فرقًا كبيرًا، لكن شيئًا خفيفًا، شيئًا بدأ يذوب في قلبه، وكان صعبًا عليه أن يصدق. "أمل" قد يكون كلمة صغيرة، لكنها في قلب زياد، تعني أكثر من أي شيء آخر. كانت تعني أن هناك شيئًا جديدًا يمكن أن يحدث، أن حياته قد لا تبقى كما هي، أن الله لن يتركه في هذا الممر الضيق.

لكن قلبه كان يعرف، كما كانت قد أخبرته الحياة، أنه ليس وحده. الله معه، حتى في لحظات الألم، حتى في لحظات الوحدة.

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••

كان إياد واقفًا في غرفة المراقبة، يتابع الكاميرات بصحبة أحد العاملين بحثًا عن حادثة سرقة ورد عنها بلاغ. العيون تتحرك بسرعة بين الشاشات، والقلوب تترقّب.

لكن فجأة... تجمّد كل شيء.

على إحدى الشاشات، ظهر مشهدٌ بسيط للوهلة الأولى. سيارة مركونة بجوار سور الجيم، وفوق غطائها جلس كلب صغير، يبدو عليه التعب والإعياء، ملفوف الذيل، مغلق العينين، كأنّه يحتمي بالنوم من قسوة العالم.

كان الليل بارداً، والشارع فارغًا إلا من أنفاسه المتقطعة.

بدا كأنّه وجد أخيرًا مكانًا آمنًا، قطعة من الحياة تمنحه لحظة راحة وسط مدينة لا تُبالي.

لكن الطمأنينة لا تطول في الشوارع الخالية.

ظهر شابان، أحدهما يلوّح بسلاح أبيض في يده، والآخر يقترب بخطى واثقة، لا صوت ولا رحمة.

وفي لحظة، طعن أحدهم الكلب من جانبه، تبعته الطعنة الثانية في الجهة الأخرى. بلا صراخ، بلا جري، بلا مقاومة.

الكلب فقط، فتح عينيه... نظرة حائرة، مرتعشة، لا تفهم شيئًا.

نهض متعثرًا، تحامل على جسده الصغير، وبدأ يلعق مكان الدم، كما لو أن لسانه يمكنه إيقاف النزيف، أو تضميد خيانة البشر.

الدماء سالت، وابتلّت الأرض تحته، وكل ما فعله هو أنه حاول أن يفهم.

كان ينظر حوله، يستجدي شيئًا لا يعرف اسمه... ربما رحمة؟ ربما دفء؟ أو حتى نظرة لا تخيفه.

الناس مرّوا، نظروا، أشاحوا بوجوههم كأنّهم رأوا قطة نائمة، لا مخلوقًا يحتضر.

لم يقترب أحد.

لا كلمة، لا صرخة، لا خطوة مساعدة.

ظل الكلب ينزف... حتى هدأت أطرافه، وبدأت أنفاسه تتباطأ.

ثم، كما نام أول مرة، نام مجددًا... لكن هذه المرة، نام للأبد.

تسطّح على سطح السيارة، جسده ساكن، وعيناه نصف مغمضتين، والدم لا يزال يسيل من جانبيه.

رحل دون أن يعرف لماذا.

دون أن يفهم ما الخطأ الذي ارتكبه كي يُطعن في نومه.

دون أن يسمع كلمة "آسف".

راقب إياد المشهد كأنّه يُشاهد نهاية حياة... لا كلبًا يُطعن، بل كرامة تُدهس، ورحمة تُقتل، وإنسانية تموت في عيون الناس.

مدّ يده ببطء وأغلق الشاشة.

ثم همس لنفسه:

"ده بس كلب...
بس الحكاية مش فيه،
الحكاية فينا...
فينا إحنا اللي بقينا نعدّي من جنب الدم كأنه ميه،
نعدّي من جنب الموت كأنه مشهد ف فيلم،
نعدّي من جنب الظلم... ونقول مش شُغلنا."

خرج إياد من غرفة المراقبة وقد أثقلته الرؤية التي لم يكن مستعدًّا لها. خطواته كانت بطيئة، وكأن قلبه ما زال هناك، في تلك الشاشة، يتأمل الكلب المسكين وهو يُضرب بلا سبب، يُنزف بصمت، ويموت وحيدًا تحت نظرات البشر التي خلت من الرحمة.

فتح باب الصالة الرياضية فاستقبلته أصوات الحديد، وضجيج الأجساد المنهكة، والموسيقى التي كانت تصدح بإيقاع حماسي لا يشبه ما في قلبه. حاول أن يرتدي ملامح المدرب القوي، المُشجع، لكن عينيه خانتاه، فكان فيهما ظلٌّ من الألم لا يخفى.

اقترب منه أحد الشباب وهو يقول بحماس:
- "صباح الخير يا كوتش إياد!"

ابتسم إياد ابتسامة خافتة وقال:
- "صباح النور يا نجم... شدّ حيلك بقى، العضلة مش هتيجي بالكلام."

تابع سيره بين الأجهزة، يعدّل حركة هنا، ويصحّح تمرينًا هناك. لم يكن حادًّا كعادته، بل صار أكثر لينًا، وأكثر صمتًا. وكأنه يحمل في صدره شيئًا لا يُقال.

اقترب من "عرب"، أحد المتدربين القدماء، كان يرفع الأوزان ووجهه مبلل بالعرق، قال له إياد:
- "عامل إيه يا رجولة؟"

ضحك عرب وقال وهو يلهث:
- "فلو ومية مية... بس دراعي هيقع يا كوتش!"

ربت إياد على كتفه قائلاً:
- "ما هو الرجولة مش فـ الدراع يا ابني... الرجولة إنك تفضل ثابت، حتى لما الحياة تضربك تحت الحزام."

وقف للحظة، ونظر إلى الشباب المنتشرين في أنحاء الصالة، ثم نادى بصوت مسموع:

- "يا شباب... اسمعوني شوية.
أنا عارف إنكم جايين تتمرنوا، تقووا جسمكم، تبنوا عضلات... بس عايز أقولكم حاجة."

تجمّع بعضهم، والبعض الآخر خفّف من وتيرة تمارينه ليستمع، فتابع قائلاً:

- "أنا شفت حاجة النهاردة وجعتني... كلب، نايم فوق عربية... مش بيعمل حاجة... جُه اتنين ضربوه بسكينة ومشيوا، سابوه ينزف، والناس وقفت تتفرج..."

سادت لحظة صمت ثقيلة، تابع فيها إياد، ونبرته صارت أكثر حزنًا:

- "ماحدّش ساعده... ماحدّش حتى فكر يوقف النزيف...
هو كان كلب، أيوه... بس كان بريء، ما أذى حد، وكان نايم... ومات قدّام عيون ناس كتير من غير ما حد يحرّك صباع."

أحد المتدربين سأل بخفوت:
- "بس يا كوتش هو كلب يعني..."

رمقه إياد بنظرة عميقة، وقال:
- "أيوه كلب... بس أضعف خلق ربنا ليه حق يعيش من غير وجع...
وإحنا لما بنتفرج على الظلم من غير ما نتحرّك، بنتحوّل لمجرمين من نوع تاني... شهود سكوت."

أخفض صوته قليلاً وقال وهو يمسح جبينه:
- "أنا مش جاي أديكم محاضرة...
بس أنا مدربكم، وبشوف فيكم رجالة.
الرجولة مش بس في العضلة...
الرجولة إنك توقف الظلم حتى لو بصوتك، حتى لو بنظرتك...
ما تبقاش تمثال بيتفرج."

ثم عاد إلى نبرته الحماسية وهو يصفق بيديه:
- "يلا بقى، نكمل التمرين، بس المرة دي... تمرّنوا من قلبكم، فاهمين؟
الحديد ده مش بس بيبني الجسم، ده بيصقل الروح كمان."

ابتسم إياد، لكن في عينيه ظلّ الحزن، لم يرحل...
ربما سيبقى طويلًا، ما دام في العالم ظلم لا يُكسر، وقلوب لا تعرف الرحمة.

وقف لحظة، كأن شيئًا داخله يدفعه للكلام، ثم قال بصوت منخفض لكن مسموع:

- "عارفين يا شباب...
النبي ﷺ قال:
(دخلت امرأة النار في هرة، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض).
يعني شوفوا الرحمة في ديننا وصلت لفين؟
مجرد إنها ما رحمتش قطة... دخلت النار!"

سكت لحظة، ورفع نظره للسقف، كأنّه يسترجع وجه الكلب وهو ينزف، ثم أكمل:

- "إحنا مش بنتمرن عشان نبقى أقوى من الضعيف...
إحنا بنتقوى علشان نحمي الضعيف.
لأن الرجولة مش في ضرب، الرجولة في ستر...
وفي رحمة، وفي كلمة حق تتقال وقت ما الكل ساكت."

ثم تنهد وقال بابتسامة باهتة:

- "كلنا هنتحاسب...
مش على حجم عضلاتنا،
لكن على حجم قلوبنا."

ثم صفق بكفّه مرة أخيرة وقال:

- "يلّا يا أبطال... نتمرّن بضمير، ونعيش بضمير.
ربنا شايف... واللي عنده رب، عمره ما يكون لوحده."

تنهد، ثم همس لنفسه:

- "اللهم لا تجعل قلوبنا قاسية...
ولا تجعلنا من الذين مرّوا على الألم مرور الكرام."

ثم سار ببطء نحو الركن الذي يضع فيه حذاءه الرياضي، حمله على كتفه، ونظر للمكان للمرة الأخيرة قبل أن يغادر.

وفي قلبه، كان يعلم أن التدريب الحقيقي لا يكون في صالة الألعاب، بل في الشوارع...
في لحظة اختيار بين الرحمة والسكوت... بين الإنسانية والتجاهل.

خرج إياد من المكان، لكنه ترك خلفه سؤالًا لا يزال يهمس في الجدران:

"أي قسوةٍ تلك التي تمنع إنسانًا من أن يحنّ حتى على كلبٍ نائم؟"

••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
"ثمّة لحظات لا تُنسى، لا لأنّها جميلة… بل لأنّها أنهكتك حتى ظننت أن روحك لن تعود كما كانت."


تعليقات