📁 آخر الأخبار

الفصل الثامن رواية دفاتر لا تخصّك

 الفصل الثامن رواية دفاتر لا تخصّك 


8ـ بلا نُطق... بلا نجاة



"عزيزي القارئ، حين يكون السباح في الماء، لا ينشغل بمن يسبقه أو بمن خلفه، بل يُركّز على خط النهاية، ويعلم أن عليه أن يفوز. فافهمها يا عزيزي، فالعبرة بالوصول لا بالمقارنة."






مالك لم يكن طبيبًا عاديًا.

لم يكن يكتفي بسماع أنين الأطفال، بل كان يراه، يلمسه، يشعر به يتسلّل من أعينهم كأنه موسيقى حزينة تعزفها أجسادهم الصغيرة دون صوت.


في قسم العلاج الطبيعي للأطفال، لم يكن يُعرف فقط بكفاءته، بل بشيء أعمق...

ابتسامته كانت نصف الدواء، وصبره هو النصف الآخر.

لكنه، في داخله، لم يكن مجرد مُعالج…

بل كان إنسانًا يحمل شقوقًا قديمة، جبرها الزمن ظاهريًا، لكنها لا تزال تنزف بصمت في كل لحظة يرى فيها طفلاً يتألم.


في ذلك الصباح، دخل مبكرًا كعادته، يسبق الجميع، يسبق المرض.

لكنه كان يشعر بشيء غريب في قلبه…

كأن أحدهم ينتظره، كأن وجعًا جديدًا على وشك أن يُفتح في قلبه لا في جسد غيره.


وقفت أمامه الممرضة "يمنى"، وجهها شاحب، وعيناها مترددة.


قالت بصوت خافت، تكاد تهمس:


– "فيه حالة جديدة يا دكتور… صعبة شوية."


رفع حاجبه في هدوء:


– "صعبة إزاي؟"


قدّمت له الملف:


– "بنت… عندها ٨ سنين. اسمها فرح.

عندها ضمور عضلي في الأطراف، من النوع اللي مبيخليش الجسم يستجيب.

الكل قال إنها مش هتمشي تاني… يمكن أبدًا."


أخذ منها الملف بصمت، ليقرأ.

كل كلمة كانت كأنها سكين قديم يُفتح من جديد في صدره.


فتح باب مكتبه، وقال دون أن يرفع نظره:


– "دخليها عليا بعد ١٠ دقايق."


جلس على كرسيه، فتح الملف مرة أخرى، وتأمل الصورة.

طفلة على كرسي متحرك، عيناها واسعتان، لكن فيهما ظلال لا يشبهها سنها.

أغمض عينيه لحظة، كأن روحه تتجهز لمواجهة شيء أعمق من العضلات…

شيء يشبهه.


ثم دق الباب.


فتحت الممرضة الباب وقالت:


– "فرح يا دكتور."


دخلت الطفلة… لا تمشي، لا تحاول، بل تُدفع على كرسي متحرك.

وجهها صغير، شاحب، كأن الزمن مر عليه قبل أوانه.

لكن عينيها… 

كأنها اعتادت أن تُحرم، فصمتت… وكأنها تعلم أن أحدًا لا ينوي أن ينقذها.


قال بلطفٍ:


– "أزيك يا فرح؟"


ردت بنبرة خافت 

، دون خوف … فقط استسلام:


– "الحمدالله."


ابتسم:


– "أنا الدكتور مالك… بس ممكن تناديني زي ما تحبي، ناس كتير بيقولوا عليّ يا عم مالك."


قالت دون أن ترفع عينيها:


– "أنا مش بحب أنادي حد أصلاً."


ضحك بخفة وقال:


– "تمام… يبقى أنا وانتِ مش هنتكلم كتير، بس نلعب شوية، ينفع؟"


هزت رأسها، نوع من اللا مبالاة.


جلس على الأرض ، وأخرج علبة خشبية صغيرة فيها خرز ومكعبات وألوان وكرات ناعمة.




– "بصي… إحنا مش هنبدأ بتمرينات، إحنا هنبدأ بلعبة."


– "اللعب ده للأطفال اللي بيجروا… أنا على كرسي."


صمت للحظة… ثم قال:


– "بس في أطفال بيجروا… وقلبهم محبوس. وانتي يمكن قلبك محتاج يجري الأول."


لأول مرة… تحركت نظرتها نحوه.


– "قوليلي يا فرح، بتحبي تمشي؟"


– "كنت بحب أجري مع ماما في الجنينة… دلوقتي… حتى الهوا بقي تقيل عليّا."


اقترب منها وقال:


– "عارفة… أنا كمان كنت صغير، واتكسرت. بس لما كبرت… اخترت أكون دكتور، مش علشان أعالج…

علشان كل مرة أطبطب على طفل… أحس إن جزء مني بيتصلح."


رفعت عينيها وقالت:


– "هو الوجع بيتصلح؟"


ابتسم، وفي صوته شرخ:


– "مش دايمًا… بس بيتشارك. ولما الوجع بيتشارك، بيبقى أخف."


ثم مدّ يدها لمكعب، وقال:


– "هتلعبيني لعبة؟ اسمها "فين بيوجع؟ وفين بيرتاح؟" هعدّي الكورة على جسمك، وانتي تقوليلي كل ما تحسي بحاجة."


– "ولو محستش؟"


– "يبقى نحاول تاني… تاني يوم… وتالت أسبوع. كل إحساس بسيط… اسمه بداية."


ومرّر الكورة على إيدها… ثم كتفها… ثم ضهرها.


قالت بصوت خافت:


– "مبحبش حد يلمس ضهري."


سأل برقة:


– "علشان بيوجعك؟"


– "علشان كنت لما بعيط، ماما تقوللي اسكتي… وعدّلي ضهرك."


اتسعت عينيه، ولم يقل شيئًا، فقط ابتلع الدموع.



– "نكتب شعور النهاردة؟"


– "أنا… خايفة، وتعبانة، ونفسي أمشي…

بس مش عاوزة أفرح على الفاضي."


كتب على المكعب:

"تعبانة… وخايفة تفرح."


ثم نظر لها، وقال:


– "الفرحة مش خطر…

الخطر إنك تستسلمي للألم. وكل خطوة صغيرة، حتى لو من غير رجل، هي خطوة ناحية الحياة."


فرح مدت يدها…

وحركت صباعها اليمين… حركة بسيطة، كأنها رعشة.


قالت بدهشة:


– "اتحرك؟!"


ابتسم… ودمع:


– "آه… لأنك بتحاولي. وجسمك بيسمعك… حتى لو الكل سكتلك."


ثم قال:


– "ممكن أقولك دعاء تحفظي؟"


– "ماشي."


– "اللهم اجعل لفرح من اسمها نصيب،

وافتح لها أبوابًا مغلقة،

وارزقها أملًا لا ينطفي…

حتى لو كان ببطء، حتى لو مشى جوّاها قبل ما يمشي برّاها."


أنهى مالك التمرين الأخير، ثم وضع الكورة الصغيرة جانبًا، وتنهد وهو ينظر إلى الطفلة التي بدأت ملامح وجهها تسترخي قليلًا، بعد أن كانت مشدودة كوترٍ مكسور.


اقترب منها ببطء، ثم جلس على ركبتيه ليكون في مستوى نظرها، وقال بصوتٍ دافئ:


– "إحنا كده خلصنا جلسة النهارده يا فرح."


لم ترد… فقط نظرت إليه، كأنها تنتظر ما بعد الكلمات.


مدّ يده إلى درجٍ صغير في المكتب، وأخرج قطعة شيكولاتة مغلفة بلونٍ وردي.

ثم ابتسم، وأعطاها إياها:


– "ودي علشان أشطر فرح في الدنيا."


ترددت يدها لحظة، كأنها لا تصدّق أن هناك مكافأة على مجرد المحاولة.


ثم قالت بصوت خافت:


– "أنا ما عملتش حاجة…"


رد بلطف، وهو يُمسك يدها الصغيرة ليساعدها أن تأخذ الشيكولاتة:


– "بس حاولتي… وده لوحده عند ربنا كبير.

عارفة يا فرح؟

ربنا بيحب اللي بيحاول، حتى لو بيقع.

الخطوة الصغيرة دي… ممكن تكون سبب في معجزة."


نظرت إليه، والدمعة التي كانت تقف عند طرف عينها، سالت دون أن تنتبه.


مسح دمعتها بإصبعه برقة، وقال:


– "هتفضلي تحاولي، لحد ما تمشي…

وحتى لو مشيتي بقلبك قبل رجلك، فده كفاية قوي.

اللي بيحط رجله على أول الطريق، ربنا بيسنده… مهما كان الطريق طويل."


نظرت إلى الشيكولاتة، ثم إليه، وهمست:


– "شكراً."


ابتسم، وهمّ بالوقوف، ثم التفت وقال:


– "أوعِى تسيبي المكعب اللي كتبنا عليه النهارده…

ده أول نقطة نور في الحكاية."


ثم غادر الغرفة، تاركًا وراءه طفلة تحمل شيكولاتة في يد، والمكعب في الأخرى…

وقلبها، للمرّة الأولى منذ زمن، خفيف كأن فيه دعوة طايرة للسما.


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••


في مدرج رقم (3) بكلية العلوم، كان الهدوء يخيّم على المكان رغم امتلائه.

الأنفاس محتبسة، والأقلام تتحرك كأنها تلاحق الزمن.

وفي المنتصف، وقف الدكتور منصور، رجل في أواخر الأربعين، مهاب القسمات، وعيناه فيهما أثر سهرٍ طويل، وحنوّ عابر لا تخطئه القلوب.

كان واقفًا أمام سبورة بيضاء، يرسم عليها معادلة تفاعل كيميائي معقّد، بينما الطلاب يتابعون كل حركة من يده كأنهم يقرؤون من كتاب حياة.


صوته كان هادئًا، لا يعلو كثيرًا، لكنه يحمل قوة من نوع آخر…

قوة العارف، وحكمة من جرّب وخَبِر، وذاق مرارة الحياة ودرسها من كتبها ومن وجعها معًا.


قال وهو يشير إلى جزء من التفاعل:


– "زي ما أنتم شايفين يا شباب… التفاعل ده بيبدأ بحاجات بسيطة جدًا.

إنزيم ضعيف، محفّز صغير، ظروف دقيقة جدًا… بس لو كل حاجة استقرت في مكانها، النتيجة بتكون تَحوّل عظيم."


ثم وضع القلم على المنضدة، ومسح يديه، والتفت إليهم بنظر واسعة، كأنّه يراهم أكثر من مجرّد طلاب:


– "عارفين؟ اللي قدّامكم ده مش بس كيمياء…

دي سنة من سُنن ربنا في الكون."


سكت لوهلة، ثم اقترب من أول الصفوف وقال بنبرة أبطأ:


– "ربنا بيخلق العظمة من أبسط الحاجات.

أوقات الشرارة اللي بتبدأ بيها صغيرة… بس اللي جواك، إيمانك، نيتك… هو ده اللي بيحدد النتيجة."


ثم عاد إلى السبورة، وكتب كلمة "ذرة"، وتحتها كتب:

"فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره…"


وهو يكتب الآية قال:


– "حتى الذرة… اللي بندرسها ونعرف إنها أصغر حاجة… عند ربنا ليها وزن."


ضحك أحد الطلاب من آخر المدرج وقال:


– "يعني ممكن ننجح بالمثقال يا دكتور؟"


ضحك الدكتور منصور، ورد وهو يشير له:


– "لو اشتغلت بمثقال نيّة طيبة… مش بس تنجح، ده ممكن تغيّر بيها حياة ناس حواليك من غير ما تحس."


انطلقت ضحكات خفيفة في المدرج، لكن الدكتور منصور لم يُطل المزاح، بل عاد فجأة إلى نبرته الجادّة:


– "المعادلة مش بس محتاجة مكوّنات… محتاجة نَفَس.

يعني مجرّد إنك تحفظ القانون مش كفاية… لازم تفهمه، تحسّه، تشوفه في الدنيا حواليك."


ثم نظر إلى إحدى الطالبات التي كانت تكتب باهتمام شديد وقال:


– "يا بنتي، خلي العلم دايمًا وسيلة… مش غاية.

مش مهم بس تجمعي معلومات، الأهم تعملي بيها إيه.

العِلم من غير خُلق… سلاح خطر."


رفع أحد الطلاب يده وسأل:


– "يعني إحنا نذاكر وفي نيتنا إننا نفيد غيرنا؟"


قال منصور بهدوء عميق:


– "بالظبط… لو نيتك من العلم تكون نافع، ربنا هيفتحلك أبواب كتير.

أوقات باب العلم بيفتح باب رزق، أو باب شفاء، أو باب هداية لحد محتاجك.

والنية الطيبة… بتشتغل حتى وإنت مش واخد بالك."


ثم سكت للحظة وكأنّه يترك أثر كلماته يتسرّب بهدوء لقلوبهم، وأضاف:


– "أنا مش واقف قدّامكم عشان أشرح شوية معادلات،

أنا واقف عشان أساعدكم تشوفوا العالم بعين مختلفة.

العين اللي شايفة الإبداع، وشايفة الحكمة، وشايفة ربنا في كل حاجة، حتى في الذرة الصغيرة."


رنّ جرس نهاية المحاضرة، فبدأت الأوراق تُطوى، والحقائب تُغلق، لكنه رفع صوته قليلًا:


– "استنوا، سؤال أخير قبل ما تمشوا."


سادت همهمة لطيفة، ثم عمّ الصمت.


قال:


– "لو التفاعل محتاج شروط مناسبة عشان ينجح…

فاكرين إحنا محتاجين إيه عشان ننجح؟"


ردّ طالب من الخلف بصوت عفوي:


– "نية صافية… وبيئة نظيفة!"


ضحك منصور وقال:


– "صح… وساعتها، مش بس هتنجح المعادلة…

ده ممكن قلبك هو اللي يتفاعل، ويتغيّر، ويخرج منه أنقى نسخة منك."


ثم ختم بكلمة خافتة قالها وهو يجمع أوراقه:


– "وما خُلق العِلم إلا ليقودنا إلى الخالق."


وخرج الطلاب من المدرج، لكن شيئًا في قلوبهم ظل هناك…

ربما كان درسًا، وربما كان دعوة للاستيقاظ.


•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••

الغرفة لم تكن ضيقةً فقط، بل كانت تضيق عليه هو بالذات.

فيها جدران تحاصر العقل لا الجسد، وفي زواياها ظلالٌ تشبه الذكريات… باهتة، لكنها حاضرة، ترفض أن ترحل.

رقم "11" على الباب ليس رقماً عاديًا… بل صار، بمرور الوقت، جزءًا من ذاكرة يوسف الجديدة… تلك الذاكرة المشوّهة التي بدأت بعد أن مات والده بين يديه.


كان يوسف واقفًا عند الشباك، ينظر إلى الخارج كمن يبحث عن دليل أنه ما زال حيًا.

لكن عينيه لا تريان شيئًا، لأن الداخل كان أكثر ضجيجًا من أي نافذة.


جسده النحيل كان يقف، لكن روحه كانت متكومة في زاوية… تبكي في صمت منذ سنوات.


دخلت أمل، دكتورة علم النفس العيادي، بخطى هادئة، مدروسة، لا تُصدر صوتًا إلا للطمأنينة.

لم تتكلم مباشرة. جلست أولاً، وراقبته لحظة.


ثم قالت بلطف:


– "يوسف؟"


صوته جاء هادئًا، كأنه يخرج من بئر:


– "أنا حتى معرفتش أموت… جربت ومقدرتش… فشلت."


لم تنكر عليه مشاعره، لم تهاجمه بتفاؤل زائف.

فقط ابتسمت ابتسامة حقيقية وقالت:


– "مش دايمًا اللي بيعرف يعيش هو الأقوى… أحيانًا اللي بيكمل يومه، بس، بيكون بطل."


ثم نظرت إلى ملفه وقالت:


– "أنا قريت عن اللي حصل لباباك… شوفته وهو بيموت بين إيديك، صح؟"


هزّ رأسه، ولم يتكلم.

لكن ملامحه كانت تعترف بكل شيء.


أمل أكملت:


– "يوسف، الصدمة اللي عشتها دي بنسميها في الطب النفسي (trauma)، ودي مش كلمة سهل نعديها.

اللي حصل ليك عمل شرخ جواك، مش في الذاكرة بس، ده في الأعصاب، في التفكير، في النوم، في الإحساس بالأمان…

ببساطة: حصل فيك زلزال."


صمت.

ثم فجأة، قال:


– "أنا كل يوم بعيش اللحظة دي تاني…

بسمع صوته، بشوف عينيه…

وبحس إني السبب."


نظرت له مباشرة، وقالت:


– "هقولك حاجة مهمة جدًا…

الدماغ، لما بيتعرض لحاجة تفوق طاقته، بيقف. بيحبس الصورة، ويكررها… كأنه بيحاول يفهم.

اللي بيحصل معاك ده مش جنون… ده دماغك بيحاول يحميك."


ثم أخرجت دفتر رسم وأقلام.


– "عارف ليه دايمًا بنستخدم الرسم في العلاج؟

عشان أوقات اللسان بيعجز، لكن الإيد بتتكلم.

ارسم، حتى لو مش فاهم بتعمل إيه.

ده اسمه التفريغ. زي ما بنفضّي كوباية مليانة مشاعر، نرسمها… نشوفها، نحطها قدامنا… ونقرر إحنا نعمل فيها إيه."


نظر يوسف إلى الدفتر، وكأن ورقة بيضا ممكن تحتضن كل اللي مش قادر يقوله.


قال، والدمعة بتتزحلق على خده:


– "أنا مش عايز أموت…

بس تعبان أوي، وكل حاجة جوايا مضلمة."


أمل قعدت قصاده، على نفس الأرض، بنفس المستوى:


– "عارف، لما مريض بيدخل طوارئ وفيه نزيف داخلي… بيكون محتاج ينزف قدامنا الأول عشان نعرف نعالجه.

إنت بتنزف…

بس دلوقتي، أول مرة تنزف قدامي، مش لوحدك."


ثم قالت:


– "الشعور بالذنب، والرعب، والفراغ… كل ده مفهوم.

بس مش لازم تفضل فيه.

إحنا بنستخدم حاجة اسمها (إعادة التقدير)، يعني نعيد فهم اللي حصل، ونفكك الصورة اللي حبسك.

أنت مش السبب.

أنت كنت طفل صغير شاف حاجة أكبر من سنه."


أمسك يوسف القلم، ورسم خطًا واحدًا على الورقة.

ثم سحب نفس عميق، وأكمل رسم شباك… ثم شخص واقف ورا الشباك.

قال:


– "ده أنا…

واقف…

بس كل حاجة برا مفيش فيها حياة."


أمل قالت:


– "وكل رسمة هي جزء من الخروج من الجدار.

كل مرة تعبر، حتى بالسكوت… ده تقدم."


ثم نظرت إليه نظرة صادقة، مليانة دفء:


– "إنت مش متكسر… إنت متألم.

والألم لما يتحكى، بيخف.

وإنت لسه في أول الطريق…

بس وجودك هنا، دلوقتي، معايا… ده بداية حقيقية."


يوسف، بصوت خافت:


– "أنا مش عارف أعيش، بس مش عايز أموت."


ردت وهي تحط الدفتر قدامه:


– "حلو كده…

خد ده، وخليه يبقى صوتك بدل دموعك.

مش لازم تبقى قوي… كفاية تكون صادق."


وفي نهاية الورقة، كتب يوسف:


> "أنا مش وحش، أنا موجوع.

والموجوع مش محتاج حكم… محتاج حضن."


••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••

في شقة بسيطة فوق سطح عمارة قديمة،

كان الليل قد تمدّد فوق المدينة كغطاء ثقيل، يُخفي ملامح الأزقة ويُخفت ضوء النوافذ، ولم يبقَ من الأصوات إلا صدى المروحة على السقف، وخرير ماء خافت من الحوض في المطبخ.

في الطابق الأخير من بناية متوسطة، تقع شقة صغيرة لكنها مليئة بالحياة. أثاثها بسيط، لا يحمل من الترف إلا ما تيسّر، لكنه يحمل بين أركانه طمأنينة لا تُشترى.


كانت نَسمة، الأم، واقفة في المطبخ تُنهي آخر ما تبقّى من تنظيف. يداها لا تتوقفان، كأنها تفرغ تعب اليوم في الصحون وتُغسل معها الهموم. على وجهها علامات الإرهاق، لكنها تبتسم بهدوء كلما مرّت يدها على كوب أو طبق.


أما في الصالة، فقد كانت حنين تجلس على الأريكة المهترئة، ساقاها مرفوعتان، وبين يديها كوب شاي بدأ يبرد. عيناها تحدّقان في التلفاز دون تركيز، أما عقلها فكان في مكان آخر تمامًا، بعيدًا عن الصور المتحرّكة على الشاشة، مشغولًا بتفاصيل الغد، وبما هو أثقل من قدرتها على الاحتمال.


حفصة، أختها الصغيرة، كانت تجلس بالقرب منها، تعبث بهاتفها المحمول، ثم رفعت عينيها إلى أختها وسألت بهدوء:


– مالك يا حنين؟ شكلك مش مظبوط.


أجابت حنين دون أن تلتفت إليها، بصوت متهدّج قليلًا:


– مفيش يا حبّي، تعبانة شوية... وعندي شغل بدري الصبح.


حفصة هزّت رأسها، لكنها لم تقتنع تمامًا. سحبت نفسها إلى المطبخ، وأحضرت كوبين من عصير الليمون البارد، وقدّمتهما بصمت.

جلست إلى جوار أختها وقدّمت لها الكوب:


– خدي، يمكن يريحك شوية.


ابتسمت حنين وهي تأخذه منها:


– تسلمي يا بطة.


سادت لحظة صمت، لا يُسمع فيها إلا صوت المروحة، وزفير أنفاس حنين المتلاحقة.

من خلفهما، خرجت الأم من المطبخ وهي تمسح يديها في المريلة، وقالت برفق:


– أنا هدخل أنام، حد عاوز حاجة قبل ما أطفّي النور؟


رفعت حنين عينيها وقالت:


– لا يا ماما، تصبحِ على خير.


ردّت نَسمة وهي تُغلق باب غرفتها:


– وانتوا من أهل الخير يا حبايب قلبي.


دخلت حفصة وحنين إلى غرفتهما الصغيرة، الغرفة التي تشاركاها منذ الطفولة. كانت الغرفة بها سريران صغيران، بينهما كُومود قديم تعلوه ساعة منسية وكتاب مفتوح على صفحة مهترئة.


أطفأت حنين النور، وتمددتا كل واحدة في سريرها.

الهدوء كان كثيفًا، كأن الليل قرر أن يتآمر مع الصمت كي يُرغم القلوب على الاعتراف.


وبعد دقائق من السكون، جاء صوت حفصة:


– حنين؟


– ممم؟


– إنتي نمتي؟


– يا بنتي لسه حاطين راسنا... في إيه؟


– بجد بقى، مالك؟ بقالك كام يوم ساكتة كده... ووشك حزين.


تنهّدت حنين تنهيدة طويلة، ثم قالت بصوت أقرب للهمس:


– كريم ساب الشغل.


سكتت حفصة لوهلة، ثم قالت بانفعال خافت:


– إزاي؟ ده كان لسه واخد ترقية!


– الشركة بتقلل الناس... قالوله "إحنا آسفين، بس ده قرار إداري".


– طب وهو هيشتغل فين بعد كده؟


– مش عارفة... ومش عارفة أصلاً هنكمل الشهر إزاي، الإيجار جاي، والمرتب بتاعي مش هيكفّي حتى النور.

ثم قالت بهدوء وهي تقترب منها قليلا:


– متقلقيش، ربنا مش بينسى حد... دايمًا بيبعت الفرج في آخر لحظة.


– تعبت يا حفصة... تعبت من كتر ما بحاول أكون قوية، ومن كتر ما بخاف أنام وأصحى ألاقي حاجة وقعت مني.


– بس انتي فعلًا قوية... عارفة ليه؟ عشان رغم كل ده، لسه واقفة، ولسه بتضحكي، ولسه بتخافي على الناس أكتر من نفسك.


– قوليلي يا بطوطة... بتدعيلنا بليل؟


– من قلبي... كل يوم، كل ليلة، حتى وإنتي مش واخدة بالك.


– طب قوليلي دعوة حلوة كده دلوقتي.


– ربنا يفرّج همّك، ويريّح قلبك، ويبدّل تعبك راحة، يا نينا.


ضحكت حنين وقالت:


– يا بنتي الدعوة دي لو اتكتبت، ممكن تنقذ ألف قلب.


– تصبّحي على خير يا قلب أختك.


– وانتي من أهل الخير يا بنت قلبي.


سكتوا... لكن السكون المرة دي كان أهدى، كأنّ الكلام طبطب على القلب، ومسح الهم من على جبينها.

------------------------

"كأن الله وحده يعلم"

"خطوة على حافة البكاء"

"ظلٌ في قلب صغير"


اللهم اجعل لفلسطين فجرًا لا يُغلق بابه، وانتصارًا يُدهش العالم، وارزقهم الصبر والثبات حتى يأتي وعدك الحقّ… آمين🤎.


حابّة أعرف رأيكم في طريقة السرد والحوار، وهل حسّيتوا إن الشخصيات كانت واقعية وقريبة منكم؟

  

مين أكتر شخصية حبتوها وتأثرتوا بيها؟

تعليقات