الفصل السابع رواية دفاتر لا تخصّك
7ـ المحارب
حينما صدح صوت المؤذن من المسجد القريب، تهادى الهدوء داخل البيت. خفّضت أمل صوت التلفاز، وأطفأ أنس الميكروويف، وقال مالك:
"اللي ما توضاش يتوضى، بابا هيصلي بينا جماعة."
كانت تلك اللحظة محببة لدى الجميع. وقت الصلاة كان أشبه بموعد لقاء لا يُفوّت، حيث يجتمعون كصفٍ واحدٍ، خلف صوت والدهم الذي يبثّ الطمأنينة في الأرواح.
توضأ الجميع، ثم اصطفوا في غرفة المعيشة الواسعة، سجادات الصلاة على الأرض، والإضاءة خافتة.
منصور، بثوبه الأبيض ووجهه الهادئ، تقدّمهم.
نظر إليهم بحزمٍ محبّب وقال:
"استووا... اعتدلوا... الله أكبر."
انطلقت تكبيرة الإحرام، فغمرت الغرفة سكينة عجيبة.
كان صوت والدهم يتلو السور القصيرة بخشوع، يرسل الكلمات كأنها قطرات ندى تسقي أرواحهم:
> "قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلّى."
ركعوا وسجدوا، وكل في قلبه سرٌ ودعاء. لم يكن مجرد أداءٍ حركي، بل صلاة تُقام بروح الجماعة، بامتداد الإيمان من الأب إلى الأبناء، بسلسلة نورانية لا تنكسر.
ما إن انتهت الصلاة، حتى رفع منصور كفَّيه بهدوء، ودعا دعاءً خفيفًا:
"اللهم اجعلنا من عبادك الذين يقيمون الصلاة، ومن ذريتنا، ربنا وتقبل دعاء."
ورددوا خلفه:
"آمين."
بعد دقائق، جلس الجميع في الصالون.
مالك جلس مسنودًا على كنبة صغيرة، أنس تمدد على الأرض وهو يلهو بمسبحة خشبية، إياد جلس القرفصاء، وحسام بجواره يعبث بهاتفه ثم أغلقه باحترام حين بدأ والدهم الحديث. خالد جلس جوار الباب في هدوء، واضعًا كفيه في حجره.
أمل دخلت بكوب من الشاي لزوجها، وجلست جواره في صمتٍ هادئ.
كان لمنصور، والدهم، هيبة ناعمة... لا يرفع صوته، لكنهم يسمعون له كأن كلامه فرض لا يُرد.
جلس منصور، يتناول رشفات من الشاي الذي حضّرته أمل، وقال بلطف:
"كنت بفكر أكلمكم النهاردة عن 'اليقين بالله'... مش بس التوكل، لكن اليقين."
نظر إليهم واحدًا واحدًا، ثم تابع:
"عارفين يعني إيه يقين؟ يعني قلبك متأكد من رحمة ربنا، حتى لو الظروف كلها بتقول العكس."
قال خالد وهو يستند بمرفقه:
"زي سيدنا إبراهيم لما رموه في النار؟"
ابتسم الأب وقال:
"بالضبط! جاله جبريل وهو في الهوا، وقال له: ألك حاجة؟ فرد بكل يقين: 'أما إليك فلا'. يااه... كان متأكد إن ربنا مش هيسيبُه. وفعلاً، النار بقت بردًا وسلامًا."
قال إياد منبهِرًا:
"ده يقين عالي أوي."
رد منصور:
"اليقين درجات... فيه ناس بتدعي ومش بتشك أبدًا، حتى لو اتأخر الدعاء سنين. زي سيّدنا يعقوب، قعد سنين يدعي ليوسف، ولما الناس قالت له: 'تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين'... ردّ بإيمان عظيم: 'إنما أشكو بثي وحزني إلى الله'."
كانت أمل تنظر لزوجها بفخر، أما الأولاد، فعيونهم بدأت تتسع، ووجوههم صارت أكثر انتباهًا.
قال حسام:
"بس ساعات بنضعف... الواحد لما يدعي كتير وما يتجابش له، بيحس إن قلبه بيتعب."
رد منصور وهو يومئ برأسه:
"طبيعي. لكن وقتها ارجع لسيدنا موسى... ربنا قال له: قد أجيبت دعوتكما. مع إنهم دعوا من بدري، والاستجابة حصلت بعد وقت طويل. فربنا بيقول لك: أنا سامع، بس عندي وقت مناسب لكل حاجة."
ثم أضاف مبتسمًا:
"وبعدين... فاكرين الحديث اللي بيقول: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك؟ دي مش مجرد جملة، دي طمأنينة مش بتتوزع على حد، إلا اللي عنده يقين."
قال أنس:
"يعني مش نقلق من بُكرة؟"
رد الأب:
"ولا من بعده. إنت اجتهد، وخد بالأسباب، والباقي على الله. وافتكروا دايمًا... ومن يتقِ الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب."
ثم نظر إليهم نظرة طويلة وقال بهدوء:
"كل واحد فيكم عنده حاجة بيتمناها. ادعوا، وخلوا يقينكم كبير. ممكن اللي بتتمنوه يتأخر، بس عمركم ما هتلاقوا خير ضاع عند رب كريم."
خالد قال أخيرًا:
"أنا فعلًا كنت محتاج الكلام ده، حسيت كأني أول مرة أفهم يعني إيه يقين."
رد الأب وهو يربت على كتفه:
"لو فهمت، يبقى وصلت لدرجة ناس كتير بتعيش عمرها تدور عليها."
ضحكت أمل وقالت:
"نختم بدعاء بقى، قبل ما دموع العيال تنزل!"
وضحك الجميع، ورفعوا أيديهم بدعاء جماعي خاشع، كأنّ السماء أقرب ما تكون.
••••••••••••••••
عاد إسلام إلى منزله مع غروب الشمس، حاملاً في قلبه هدوءًا يشبه ذلك الذي يسبق المطر. كانت خطواته ثابتة، كأن الأرض تعرفه وتحفظ إيقاع مشيه. أدار المفتاح في باب الشقة ودخل، فاستقبله عبق الطعام ودفء البيوت المأهولة بالحب. ألقى السلام بصوته المألوف الذي يحمل دومًا نبرة دفء:
"السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته."
هاجر، والدته، كانت تقف في المطبخ تلفّ بيديها العجين، وما إن سمعته حتى أطلّت برأسها، ونظرت إليه بعينين ملأى بالشوق:
"وعليكم السلام، حطّيلك تاكل؟"
ضحك بخفة وقال وهو يخلع حذاءه عند الباب:
-"لأ يا ماما، الحمد الله، كلت معاهم في الشغل."
من داخل الصالة، كان جلال، والده، يتابع نشرة الأخبار بنصف تركيز، لم تمر عليه العلبة الصغيرة التي يحملها ابنه دون تعليق:
"إيه اللي في إيدك ده، يا إسلام؟"
رفع العلبة قليلًا وقال بابتسامة واسعة:
"هدية لرو."
قلبه يسبق خطواته. كان يحتفظ بهذا اليوم في داخله منذ أسابيع، ينتظر لحظة مناسبة ليقدّم لها هذه الهدية الصغيرة التي يعرف أنها تعني لها الكثير. اقترب من غرفتها، طرق الباب بخفة ثم دخل، فوجدها تجلس على الأرض، مستغرقة في رسمها.
كانت روان، تلك الفتاة التي تشبه الندى، منكفئة على دفترها الكبير، تُحرّك القلم وكأنها تنفخ الروح في الورق. حين شعرت به، رفعت رأسها، وملامحها أضاءت بابتسامة:
"تعالَ شوف رسمتي!"
اقترب منها وجلس بجوارها، مستندًا إلى الحائط، وسأل بنبرة مليئة بالإعجاب:
"رسمتي مين المرة دي؟"
أشارت للرسم وقالت بحماس طفولي:
"شوف بعينك!"
نظر إلى الورقة، فتوقف الزمن للحظة. كانت قد رسمت محاربًا، طويل القامة، مرفوع الرأس، يقف وسط ساحة واسعة، في يده اليمنى سيف، وفي اليسرى... كانت هي، تقف خلفه ممسكة بذراعه، كأنها تحتمي به من العالم. وخلفه يقف والديها، وبعض الوجوه التي لم يتعرف عليها إسلام، لكنها كانت تمثّل الناس، المجتمع، كل شيء.
وفي أعلى الورقة، بخط رقعة جميل، كتبت:
> "ما الحبّ إلا دفءُ قلبٍ صادق،
ويدٌ تُمسك بك حين تتعب،
هو الأمان حين تضطرب الدروب،
وابتسامةٌ تنسج النور في العيون،
فليكن حبّك خفيفًا كنسمة،
عميقًا كبحر، وصادقًا كدعاء أم."
قرأها مرة، ثم مرة أخرى، ولم ينطق. شرد تمامًا. شيء ما في الكلمات والرسم دخل قلبه كأنها تعويذة صادقة. لم تكن مجرد رسمة، لقد كانت رؤيتها له... هكذا تراه: محاربًا. ليس بالسيف، بل بالحب. لم يُقاتل من أجلها فقط، بل وقف في وجه العالم ليحميها، كما تقول ملامح الرسم.
همس أخيرًا:
"ده أنا؟"
هزت رأسها:
"أيوه، أنت... سميته "إسلام"، لأنه بالنسبالي إنت مش مجرد شخص، إنت أمان... إنت المحارب اللي وقف لروان والعالم كله بيقع حواليها."
ابتسم، واقترب أكثر وقال:
"طيب... ما دام أنا محاربك، يبقى لازم أهديك حاجة تليق بيك."
فتح العلبة ببطء. نظرت روان بفضول، ثم سألته:
"إيه ده؟"
قال بنبرة هادئة:
"غمّضي عيونك الحلوة... يلا."
غمضت عينيها، وعيناها ترتجفان من الحماس، ثم فتحها حين قال:
"افتحي."
وعندما رأت ما بداخل العلبة... شهقت.
تلك القطة كانت حلمًا قديمًا لروان، لكنها لم تجرؤ يومًا أن تطلبها. كانت تخاف أن يُقال عنها "بتفكر في تفاهات"، وسط حياة مليئة بالمصاعب.
رفعت القطة بحذر بين يديها، ثم حضنتها كأنها طفل. دموعها سالت فجأة، بلا مقدمات، من عينيها التي طالما تعودت أن تبتسم وتُخفي.
قالت بصوت مرتجف:
"أنا بحبك أوي يا إسلام... بجد بحبك... مش عارفة من غيرك كنت هاعيش إزاي."
نظر إليها إسلام، وملامحه امتلأت دفئًا وحنانًا، وقال:
"متقوليش كده يا روح إسلام... أنا سبب بس، لكن ربنا هو اللي بيدينا النعمة... وأنا كل اللي يهمني إنك تكوني بخير."
همست وهي تمسح دموعها وتضم القطة:
"ربنا يحفظك ليا يا رب."
- جَهّزي نفسك، بكرا بعد الشغل هاخدك للدكتورة... أنا حجزتلك مع دكتورة متخصصة.
نظرت إليه وقالت:
"ماشي... وكده كده كنت عندي استشارة مع دكتورة سارة."
ابتسم:
"ماشي يا حبيبتي."
سألته وهي تنهض:
"مش هتاكل؟"
"لأ، والله كلت في الشغل."
ضحكت بخفة وقالت:
"طب تعالَ ناكل سوا... روح غير هدومك، وأنا هسخن الأكل، وتيجي تساعدني."
"حاضر يا ست، ده انتي طيبة وعيوطة ومفتريه كمان، يا "رو"."
ضحكت بصوت أعلى، وهو يخرج من الغرفة، وترك ورائه قلبًا ممتلئًا بالحب والامتنان.
••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
حابّة أعرف رأيكم في طريقة السرد والحوار، وهل حسّيتوا إن الشخصيات كانت واقعية وقريبة منكم؟
مين أكتر شخصية حبتوها وتأثرتوا بيها؟
وإيه رأيكم في علاقة إسلام وران؟
وكمان عاوزة أعرف انطباعكم عن عائلة الدكتورة منصور؟
رأيكم يهمني جدًا ويفرق معايا في كل خطوة، ومحتاجة دعمكم عشان أكمل وأطور من الرواية أكتر 🤎.