الفصل السادس رواية دفاتر لا تخصّك
6ـ بابٌ لا يُطرَق عبثًا
"ليس الجميع يحظى بالأمان، فالكثير منا يعيش وسط عائلته، لكنه لا يشعر بالدفء والطمأنينة التي يُفترض أن تمنحها الأسرة. فهل الأمان مجرد وجود أشخاص حولنا، أم أنه شعور حقيقي ينبع من الحب، والاحتواء، والتفاهم؟"
خرج حسام من العيادة بعد يوم طويل مرهق، كانت الحالات كثيرة والضغوط لا تُحتمل، فشعر أن جسده لم يعد يقوى على الوقوف. توقف أمام كشك صغير، أراد أن يشتري شيئًا يسدّ به جوعه، إذ كان يشعر بدوخة خفيفة بسبب التعب والجوع، لكنّ شيئًا آخر شدّ انتباهه تمامًا.
كانت هناك امرأة تجلس على الرصيف، أمامها بعض الخضروات البسيطة: خيار، وطماطم، وقرون فلفل مبعثرة. بدا على وجهها الإرهاق، والحزن سكن ملامحها كأن الفقر قد خيّم عليها منذ زمن. كان هناك فتى من ذوي الاحتياجات الخاصة يقترب منها، يمسك في يده رغيف عيش، ينظر نحو ما تبيعه بعين جائعة ومحتاجة.
قالت له المرأة بصوت حنون وهي تبتسم رغم انكسارها:
"خد يا ابني اللي انت عاوزه، كده كده ما بعتش حاجه النهارده، اهو نعمل ثواب".
الغريب أنه لم يأخذ إلا قرن فلفل أخضر فقط. حاولت أن تعطيه طماطم وخيار، لكنه تركها ورحل. تنهدت المرأة وهي تقول بصوت مبحوح:
" افرجها يا رب عليا... خليني أروح أغدي عيالي يا رب".
كاد حسام يقترب منها ليعطيها شيئًا من المال، لكن لفت انتباهه سيارة فارهة تقف فجأة أمامها. نزل رجل منها، وسألها:
"بكام الطماطم يا حاجة؟"
قالت له بتردد:
"اوزن يا أستاذ، واللي تجيبه... المهم تلحقني أروح لعيالي."
قال وهو يبتسم:
"طيب... اوزني كله."
"كله؟! ده كتير قوي يا أستاذ."
"ما تخافيش، اوزني."
جمع كل الخضروات التي كانت أمامها، وضعها في أكياس، ودفع ثمنًا كريمًا دون أن يساومها، ثم رحل. اقتربت منها امرأة أخرى وسألتها:
"يا حاجة معندكيش خيار؟"
ضحكت الحاجة لأول مرة وقالت:
"بعت كل اللي معايا بقرن فلفل!"
ثم مشت وهي تضحك وتهمس:
"جبر الخواطر بيجبر صاحبه".
وقف حسام مبتسمًا، قلبه ممتلئ بدفء هذا الموقف. ظل يردد في نفسه:
"جبر الخواطر عبادة لا تُرى، لكنها عند الله عظيمة. يكفي أن الله نفسه يُجبر كسور القلوب، ويعدّ جبر الخاطر من أحبّ الأعمال إليه. فكل كلمة طيبة، كل دعم، كل نظرة حنان… هي عبادة خفية يُثيبك الله عليها. ومن جبر خاطرًا، جبر الله خاطره يوم كان بأمسّ الحاجة إلى الجبر."
استقل سيارته وعاد إلى منزله وهو يشعر بخفة داخل صدره.
دخل حسام البيت وهو يغني بصوت رخيم: لأجاريهم قلّدتُ ظاهرَ ما فيهم... فبدوتُ شخصًا آخرَ كي أتفاخر...
كان البيت، كعادته، يعجّ بالفوضى، وصراخ الإخوة في أول الشهر لا ينتهي بسبب تقاسم الأعمال المنزلية. لكن حين سمع إخوته صوت غنائه، توقف الجميع. شاركه أخوه مالك الغناء وهو يقف على عتبة الباب، وجاء إياد من المطبخ يحمل حلة ويطبل عليها، بينما بدأ خالد يرقص مع القط بطريقة عشوائية مضحكة.
حتى أُنس أمسك يد والدته أمل وبدأ يرقص معها، وحسام يقفز على الركنة مرددًا:
لا لا لا نحتاج المال كي نزداد جمالًا...
ارتفعت أصواتهم بالغناء، وتجمّع الخمسة في منتصف المنزل، كلٌّ منهم يضرب على شيء مختلف، يضحكون، يرقصون، ويغنون بأعلى صوتهم:
جوهرُنا هنا في القلب تلالا... لا لا نرضي الناس بما لا نرضاه لنا حالًا... ذاك جمالنا يسمو يتعالى...
ضحك خالد وهو يتمسك بالقط كأنه يعلمه الرقص، بينما انسحب إياد بحركته المعتادة الطريفة، يلف ويدور حول الطاولة. أنس احتضن أمل وهو تدور به في دائرة راقصة، ومالك كان يدق على الأرض بإيقاع ثابت. أما حسام فظل يصفق ويرقص كأن قلبه يطير.
غنوا جميعًا:
آوه و آوه... آوه و آووه... كن أنت تزدد جمالًا!
البيت امتلأ بالبهجة، أصوات الضحك تتعالى، وأثر الموقف الذي شهده حسام في الشارع ما زال يلمع في قلبه.
كانت تلك اللحظات، رغم بساطتها، تحمل كل معاني الفرح، والونس، والدعم، وجبر الخاطر... في تلك اللحظة فقط، أدرك حسام أن السعادة الحقيقية لا تُشترى، بل تُبنى.
وأن أجمل البيوت ليست تلك المرتبة، بل تلك التي يُعمّرها الحب.
خرج إسلام من العمل بعد يومٍ طويل، وقبض راتبه الشهري. سار في الشوارع دون وجهة محددة، إلى أن لفت انتباهه محلٌ صغير لبيع الحيوانات الأليفة. تذكر حينها وعده لأخته روان بأنه سيجلب لها هدية في أول الشهر. دخل المحل بخطى ثابتة وراح يتأمل الحيوانات المختلفة بعينٍ تملؤها الحيرة.
اقترب منه شاب يعمل في المكان، وسأله بابتسامة: "تأمر بحاجة يا فندم؟"
رد إسلام، كعادته، بطريقة مباشرة: "هو البنات بتحب إيه يعني؟ ينفع أجيب لها فار مثلاً؟ ممكن تفرح؟"
انفجر الشاب ضاحكًا من تلقائية إسلام، ثم قال: "أي بنت بتحب القطط. وبإذن الله مش هتنكد عليك، وهتعدي الجوازة."
ضحك إسلام وقال مستنكرًا: "جوازة إيه يا عم، دي أختي!"
ضحك الشاب وقال بمكر: "آه طبعًا، كلهم بيقولوا كده في الأول. لحد ما تقولك: بابا، خد مني التليفون، وفي عريس متقدم. وتلاقي نفسك جتلك على قرونك سَحف."
ضحك إسلام بحرارة وقال: "طيب يا سيدي، عاوز قطة حلوة كده."
أشار البائع إلى ركن في المحل وقال: "بص هناك، دول القطط."
اقترب إسلام من المكان وبدأ يتأمل القطط واحدة تلو الأخرى، حتى وقعت عيناه على قطة صغيرة جدًا، كثيفة الشعر، سوداء اللون، تتوسط وجهها بقعة بيضاء كأنها خلقت لتكون مميزة، جميلة، مختلفة... وكأنها تشبه روان في ندرتها.
قال بحسم: "طيب، عاوز دي. وعاوز كمان أكل ليها."
بعد أن دفع ثمن القطة ومستلزماتها، خرج من المحل وهو ينظر إليها في صندوقها بشيء من القلق والحنان. تذكر حينها كلمات قرأها ذات مرة عن أهمية الحيوانات الأليفة في دعم الصحة النفسية:
"الحيوانات بتساعد في تحسين الحالة النفسية، خاصة للي بيعانوا من الرهاب الاجتماعي. وجود حيوان أليف بيوفر إحساس بالأمان والونس، بيقلل الشعور بالوحدة، وبيشجع على التفاعل تدريجيًا. الناس ممكن تبدأ تتكلم عن الحيوان أو تسأل عليه. لمس الحيوانات أو اللعب معاهم بيقلل هرمونات التوتر. يعني وجودهم بيكون زي علاج نفسي ناعم من غير ضغط. وبيشغل الشخص بحاجة حنينة ومسؤولة، وده مفيد جدًا للي عندهم قلق أو اكتئاب أو رهاب اجتماعي."
ثم ذهب إلى السوبر ماركت ليشتري حلويات لأخته العزيزة، قبل أن يستقل سيارته في طريق العودة إلى المنزل. وبينما كانت عيناه تتابع القطة الصغيرة، همس لها وكأنه يخاطب طفلة: "والله العظيم خايف تموتي في إيدي. يلا، ربنا يجعل ليكي سبب في فرحة عيوطة هانم."
••••••••••••••••••••••••••••••••
فتح منصور باب المنزل، ليفاجأ بمنظرٍ غريب: أولاده يغنون بطريقة عشوائية مضحكة، والأغرب أن زوجته أمل كانت ترقص معهم، بلا خجل. وحين رأى حسام والده، أمسك بيده وراح يحركها وهو يغني:
"على جبين سعادتي وأفكاري
تجري الحروف بأشواق وأزهار
هذي هيا قد سرت للسعد في أمل
تروي الجمال بألحان وأطيار"
لم يتمالك منصور نفسه، فاندمج معهم في الرقصة، وسط موجة من الضحك والبهجة.
"آه عروسة النور تاج البدر يبرزها
نجمًا يشع بأنوار وأنوار
مبارك زوجها جاءت على درر
زوج النقاء بتتويج وإبهاري"
وفجأة توقفت أمل عن الرقص وهي تصرخ: "المحشي على الناررر!!"
انفجر الجميع ضاحكين، ثم ذهب كل من منصور، حسام، ومالك لتبديل ملابسهم إلى أخرى مريحة.
في الغرفة المشتركة بين حسام ومالك، قال مالك وهو يجلس على سريره:
"أنت مش ناوي تكتب كتابك على رقية إمتى؟ بدل ما أنت خاطب مش خاطب كده."
رد حسام بهدوء: "لسه عاوز أكلم بابا، نشوف الحوار ده. وأنت مش شايف أمك عملت معايا إيه؟ خدتني من قفايا وقالتلي اتقدملها على طول!"
ضحك مالك وقال: "بالنسبة لي أمي تشوفلي أحسن. أنت مش شايف البنات عاملة إزاي اليومين دول؟ قمة القرف. احمد ربك إن أمك لقتلك بنوتة عارفة دِينها. ربنا يكتبلك الخير ويبارك في الجوازة إن شاء الله."
"اللهم آمين،" قال حسام بابتسامة.
في هذه اللحظة، سمعا صوت خالد يطرق الباب ويقول: "يلا يا جماعة، الأكل بيطحت."
اجتمع الجميع حول السفرة الكبيرة، تلك التي شهدت على مرّ السنوات آلاف الأحاديث، ومئات الخناقات الصغيرة، وعشرات اللحظات التي رُسمت في الذاكرة كأنها لوحات زيتية تُضاء بالحنين.
جلست أمل في طرف السفرة، تتأملهم واحدًا تلو الآخر، وقلبها يفيض بالرضا والحب، بينما منصور جلس في الطرف الآخر كقائد سفينة يبحر بعائلته وسط مائدة تفيض بالكرم، وأحاديث لا تنتهي.
وكما اعتاد الجميع، ما إن بدأت الأيدي تمتد نحو الأطباق، حتى بدأت أولى فصول خناقات أنس وإياد. رفع أنس رأسه بفخر، ونبرة لا تخلو من التحدي:
"أنا اللي لفّيت المحشي كله! لفيت ورق عنب أكتر من اللي المحلات بتلفه في العيد!"
رمقه إياد بنظرة لا تخلو من سخرية، ثم قال وهو يلتقط شريحة من السلطة:
"طب ما أنا اللي عملت السلطة، وقطعت خيار أكتر من اللي اتقطع في حرب أكتوبر."
مالك، الذي كان يجلس بجانبهم، قرر أن يدخل المعركة أيضًا، وقال بفخر وكأنّه يتحدث عن إنجاز بطولي:
"وأنا اللي تبّلت الفرخة قبل ما أنزل، وكنت ناوي أعمل البطاطس كمان بس الوقت خانني."
حسام، الكبير الذي كان مشغولًا بتذوق التخديعة بطرف الملعقة، رفع حاجبه وقال:
"وأنا اللي عملت التخديعة بتاعت المحشي، ودي مش أي حد يعرف يعملها، دي محتاجة مزاج وفن، وعِرق بيطلع."
كان منصور يتابع هذا السجال بابتسامة مرهقة، ثم قال بنبرة رجل تعب من الحروب الصغيرة:
"وأنا اللي جبت الأكل كله، من غيري مكنتشوا هتطبخوا أي حاجة أصلاً... يلا اقعدوا وكلوا، يا شحط منك لي."
انفجرت أمل بالضحك، نظرت إليهم كأنّها ترى لوحة فنية تتحرك أمامها، ثم قالت بحنان يقطر دفئًا:
"ربنا يحفظكم يا حبايبي... الضحكة دي بالدنيا."
ثم نظر منصور ناحية خالد، الذي كان مشغولًا بتعديل منديله على حجره، وقال بنظرة فاحصة:
"وأنت يا أستاذ خالد، ما عملتش حاجة معاهم؟ ولا كنت بتتفرج من بعيد زي المخرجين في المسلسلات؟"
ضحك خالد، وقال بثقة مصحوبة بالقليل من الدلع:
"لا يا بوب، كنت إشراف عام... وبعدين، ما أنا طبقت الهدوم! يعني برضه عملت اللي عليّ. راعوني شوية، أنا تانية ثانوي يا جماعة، مستقبل وطن!"
حسام التقط الخيط سريعًا وقال بنبرة أخوية:
"آه، قولي يا حبيب أخوك، ناوي تدخل إيه؟ أكيد طب زينا، صح؟"
كان خالد قد بدأ لتوّه في مضغ قطعة من الفرخة، فعلق الأكل في حلقه وظل يسعل، بينما سارع إياد ليقول بنبرة ساخرة:
"طب إيه يا حقير؟! حبيب أخو هيدخل تجارة زيي. على الأقل نعمل اتّحاد خريجي التجارة العظام."
أنس، الذي شعر بأن الكفة تميل لإياد، قال باستهجان وهو يرفع صوته:
"بس يا فاشل! هو الواد فاشل زيك؟ ده أنت الوحيد اللي داخل كلية أراضي سفلى في العيلة. حبيب أخو يدخل ألسن زيي، عالأقل يبقى بيتكلم إنجليزي ويبعت رسايل حب بفرنسي."
كان خالد يضحك وهو يراقب الجدال، لكن منصور تدخل سريعًا، وكأنّه يضع نقطة نهاية لكل هذا:
"بس يا واد، هو هيدخل اللي هو عاوزه، أهم حاجة يعمل اللي عليه... مش مهم اسم الكلية، المهم تبقى نضيف وتعمل حاجة تفتخر بيها."
رفع خالد عينيه لوالده، وفيهما امتنان دفين، ثم قال براحة وثقة تشبه هدوء البحر بعد العاصفة:
"صح يا بابا."
وهنا قررت أمل أن تنهي هذه الفقرة الساخنة من برنامج "خناقات العيلة"، فقالت وهي ترفع غطاء الطاجن الساخن:.
أمل:
"كفاية كلام، يلا ناكل بقى... الرز بيبرد والمحشي هيزعل."
ضحك الجميع، ثم بدأت الأصوات تختفي واحدة تلو الأخرى، لتحل محلها أصوات الملاعق، و"ممم" المستمتعة، وبين طبق وآخر، وحديث جانبي وآخر، كان الدفء هو الطبق الرئيسي على تلك السفرة... دفء العيلة، حيث يكون الحب في التفاصيل، والضحك في الخناقات، والحنان في طبق محشي دافي في قلب البيت.