pop: الفصل الثاني رواية دفاتر لا تخصّك
banner:
📁 آخر الأخبار

الفصل الثاني رواية دفاتر لا تخصّك

رواية دفاتر لا تخصّك الفصل الثاني 






"في بعض الأحيان، يجب علينا أن نتعامل مع الواقع كما لو لم يحدث شيء في الأمس، حتى نتمكن من توازن الأمور وتحديد أهدافنا بوضوح."


كان الضوء يتسلّل بخجل من خلف الستائر الثقيلة، ينسكب على الجدران الرمادية كيدٍ تُربّت على حزنٍ نائم. لم يكن ضوء الصباح يحمل في هذا اليوم طاقة البدايات، بل بدا كأنه يعتذر عن قدومه المتأخّر، كمن يعلم أنه غير مرغوب فيه.


استيقظ مالك على وقع طرقاتٍ خفيفة على باب الغرفة، صوت والدته يتردد من خلفه، مائلًا بين الحنان والرجاء:


"يا مالك، يا ابني... فوق بقى، الساعة عدّت ستة."


لم يجب. بقي مستلقيًا كما هو، يحملق في السقف الرمادي كأنما ينتظر شيئًا. كان الشعور في صدره لا يُشبه الحزن المعتاد، بل يشبه انتظارًا قلقًا... توترًا من شيءٍ يعرفه، ولا يريد مواجهته.


بعد لحظات، جلس ببطء على طرف السرير. مرّر يده على عنقه كأنه يزيل ثقل الليل عنه، ثم ألقى نظرة على الطاولة الصغيرة جوار فراشه.

كان دفتره الأسود مفتوحًا، وصفحته الأخيرة تحمل سطورًا لم تجف بعد، وكأنها تهمس له بكلماتها


"الألم لا يُعالج بالتمرين فقط...

الألم يسكن في الخوف.

وأنا، للأسف، أعرف الخوف جيدًا."


أغلق الدفتر دون صوت، ثم اتجه إلى الحمّام، توضأ بهدوء، وعاد إلى سجادته. وقف هناك دقائق يصلي، لا يتحرّك إلا بخشوعٍ داخلي، كأنّ بينه وبين الله حديثًا قديمًا يعود ليتكرر كل فجر.


حين خرج من غرفته، كان صوت والده يتلو آياتٍ من سورة الكهف، صوته ثابت هادئ، يشبه الأب نفسه: أب لا يتغيّر.


في المطبخ، رائحة القهوة كانت تعبث بالمكان بحميميّتها، وأنس يقف أمام الغلاية، يُصفّر بلحن شعبي معتاد، ويقلّب السكر في فنجان بلا نية شرب.


دخل إياد من خلفه، مرتديًا تيشرت رياضي، ويمسك بزجاجة مياه، وعلى وجهه علامات ضيق:


"يا أنس، يا عم اسكت بقى... كل يوم تقوم تصحي الحتّة كلها بتصفيرك ده؟"


ضحك أنس، ورد وهو يرفع حاجبه:


"ده أنا بصحيكو على طربي الأصيل يا إياد... مش زيّك، رايح تعذّب نفسك في الجيم وتفكرنا بنكد الحياة!"


كان الجو بينهما صاخبًا كعادتهما، لكن مالك مرّ بجوارهما بصمت، يبتسم ابتسامة صغيرة كمن لا يريد التدخّل.


في الزاوية، كانت والدته ترتب طاولة الإفطار بنفس الرتابة التي تحبها. حين لمحته، رفعت عينيها نحوه وقالت:


"مالك؟ مش هتفطر يا حبيبي؟"


ردّ دون أن يرفع نظره، وهو يفتح باب الشقة:


"مش جعان... عندي حالة بدري. هشوفكوا المغرب."


خرج كأنّه يهرب من شيءٍ يعرف أنه سيتبعه مهما ابتعد.


كان يرتدي جاكيت رمادي داكن يُخفي انحناءة خفيفة في كتفه، كأنه يحمل أثقالًا لا يُراها. الشنطة الجلدية الصغيرة على كتفه اليسرى كانت تحوي أدوات عمله، لكنّ قلبه لم يكن مستعدًا لعملٍ جديد... على الأقل ليس اليوم.


كانت جدران الغرفة مزينة بصور كرتونية ملونة، ورفوف عليها دبب صغيرة وألعاب متناثرة. المكان خُلق ليمنح الطفل أملًا، حتى لو مزيفًا... لكنه في نظر مالك، لم يكن أكثر من قناع.


كان مالك واقفًا عند طرف السرير، ينظر إليها...

طفلة بالكاد تُكمل عامها الثامن، ضامرة الجسد، ساقاها أشبه بعيدانٍ مهزوزة، وعيناها مطفأتان من فرط المحاولات.

اسمها "هنا"،

والعجيب أنها لم تكن يومًا اسمًا على مسمّى.


كانت تتنفّس بتعب، ترتدي طقمًا ورديًا بُليَ من كثرة الاستخدام، وتضمّ دُميتها القديمة إلى صدرها، كأنها تلوذ بها من جهاز العلاج أمامها.


لم تكن هذه المرة الأولى التي يراها فيها، لكنه شعر وكأن الزمن يعيد نفسه...

الألم ذاته، التعب ذاته، والدمعة ذاتها المعلقة في آخر العين، تأبى السقوط... لأن السقوط صار رفاهية.


اقترب مالك منها، جلس بجوارها على طرف السرير، وأشار للمساعدة أن تخرج.


قال لها بهدوءٍ يقطر حنانًا:


"هنا... هنجرب مع بعض شوية تمارين خفيفة، تمام؟"


لم ترد.

ظلّت صامتة، تنظر إلى قدمها الملفوفة بالحزام، كأنها لا تخصّها.


تنهد، ثم أكمل بصوتٍ أرقّ من النسيم:


"أنا مش هقولك إن الدنيا سهلة، ولا إن بكرة هيبقى وردي... بس كل حركة صغيرة، حتى لو وجعت، بتقول إنك لسه بتحاولي.

بتقولي للوجع: لأ، أنا موجودة."


رفعت رأسها إليه، وهمست:


"هو أنا لازم أتوجع علشان أمشي؟"


سؤالٌ بسيط... لكنه اخترق صدره كالسهم.

نظر إليها طويلًا، بعينٍ تمتلئ بالصمت، ثم قال بصوتٍ خفيض:


"أيوه... للأسف يا هنا.

اللي رجله مش بتوجعه... عمره ما عرف يعني إيه يحس بنعمة المشي.

وإنتِ، يا روحي، مش زي الناس.

إنتِ بتحاربي عشان توصلي لحاجة الناس واخداها ببساطة."


بدأت التمارين.

كان يدفع ساقها برفق، ثم يتركها، وهي تتأوه.

صوتها لم يكن عاليًا، لكنه كان مثل نغمة حزينة في آخر الليل...

مش صراخ، لكنه أقسى من الصراخ.


صرّت على أسنانها، وضغطت على دميتها بقوة، ومال جسدها كله إلى الخلف من شدة الألم.


قالت وهي تبكي في صمت:


"أنا مش قادرة... كل مرة بحاول، بحس إني بموت."


مدّ يده، مسح دموعها، وهمس:


"بس كل مرة بتحاولي... إنتي بتعيشي."


ثم نظر إلى ساقها الهزيلة، وتابع:


"عارفة يعني إيه تمشي وإنتي مش بتقدري؟

يعني كل خطوة بتخديها، فيها دمع، فيها تعب، فيها وجع...

بس فيها كرامة.

فيها صوت بيقول: أنا أهو، واقفة، غصب عن كل حاجة."


أجهشت بالبكاء، وقالت:


"أنا تعبت... نفسي ألعب زيهم... أنط، أجري، أرقص...

مش عايزة أوجع نفسي علشان بس أوقف."


احتضنها مالك، وتركها تبكي على صدره، وهو يقول بصوتٍ أقرب للدعاء:


"يا رب... يا رب كفاية عليهم... دول صغيرين على كل ده."


ثم قال لها، وهو يضمّها كأنها ابنته:


"بُصي، إنتي مش لوحدك.

أنا شايفك، سامعك، وحاسس بيكي.

وكل مرة هتيجي فيها، هتلاقيني واقف جنبك.

لحد ما تيجي يوم وتقومي على رجلك،

وتبصيلي وتضحكي،

وأنا أعيّط...

مش من الوجع،

من الفخر."


سكتت هنا، لكنها لم تتوقف عن البكاء.

كانت عيناها تقولان كل شيء...

عن الوجع، عن الأحلام اللي بتتأجل، عن الطفولة اللي اختنقت جوّا جهاز العلاج.


في ذلك اليوم، لم تمشِ هنا.


لكنها حاولت.


وهذا وحده، كان انتصارًا.


عاد مالك إلى البيت قبل أذان المغرب بلحظات.


كان الغروب ينسدل على المدينة كستارة من حرير، تتلوّن بظلال من البرتقالي والوردي، وكأن السماء تُسدل وداعًا هادئًا ليومٍ مُنهك. هواء المساء يحمل نكهة خفيفة من الغبار والطمأنينة، وكأن العالم يُهيّئ نفسه لصلاة، لسكينة، لراحة بعد طول عناء.


صعد مالك السلالم ببطء. قدماه متعبتان، لكن في قلبه رغبة عارمة في الدفء، في الضحك البسيط الذي لا يُصطنع، في رائحة البيت وقت المغرب.


أخرج المفتاح من جيبه، أداره في الباب بلطف، ثم دفعه بخفة.

دخل كما اعتاد... في هدوء. في البيت، الصمت لم يكن خاليًا... بل كان مأهولًا بصوت خافت يتلو آياتٍ من كتاب الله. كان والده، الدكتور منصور، يجلس على الأريكة العتيقة قرب النافذة، يقرأ في تفسير سورة طويلة. عيناه مغمضتان نصف إغماضة، وصوته يحمل جلال العلم وخشوع العمر، أما أمامه، فجلس خالد متربعًا، رأسه مائل إلى اليمين، كأنما يتلقّى درسه الأخير في مدرسة الحياة.


"إنت جيت يا حبيبي؟"

كان صوت أمل يخرج من المطبخ دافئًا كفنجان شاي في ليالي الشتاء.


لم يجب مالك أول الأمر، بل ابتسم لنفسه، وخلع حذاءه ببطء، ثم قال وهو يسير في اتجاه المطبخ:


"آه يا ماما، جعان موت، عملتي لنا إيه النهاردة؟"


قبل أن يُكمل سؤاله، انفجر صوتٌ صاخب من المطبخ.


أنس، كعادته، في معركةٍ مقدسة مع البطاطس المحمّرة، كان يصرخ:


"يا إياد! يا ابني سيب البطاطس يا نَهار إسود! إنت مش عامل رجيم؟ خليك في السلطة اللي ما حدّش بيقرب منها أساسًا!"


ظهر إياد عند باب المطبخ، قطعة بطاطس في فمه، وقال وهو يضحك:


"يا عم دي عيّنة! بشوفها مستويّة ولا لأ، إنت شاكك في شغلك؟"


هزّ مالك رأسه وضحك بخفوت، ثم مرّ بجانبهم وفتح الثلاجة، أخرج زجاجة مياه باردة، وابتلع جرعة كبيرة وهو يشعر بحرارة اليوم تنسحب من صدره.


وفي تلك اللحظة، دوّى صوت الأذان، نقيًا كقطرة ماء في صحراء عطشى.


توقّف الجميع.

أنس أغلق البوتاجاز.

أمل رفعت يدها للمريلة ومسحت بها جبينها.

إياد وقف ساكنًا، وابتسم ابتسامة خفيفة.


اجتمعوا جميعًا في غرفة الصلاة.

تقدّمهم الدكتور منصور، كما في كل مغرب، وقبل أن يكبّر، نظر إلى أبنائه نظرة طويلة. فيها ما يشبه الاطمئنان... وفيها أيضًا شيء من الحنين.


الله أكبر.


صلاة المغرب تلك لم تكن عادية. لم تكن مجرد ركعات وسجود... كانت استراحة روح. كانت نجاة مؤقتة من ضجيج العالم.


وبعد الصلاة، جلسوا لثوانٍ في صمت.

ثم قال الأب، بصوتٍ كأنما يخرج من قلبه:


"مفيش أجمل من المغرب في البيت... الحمد لله إننا مع بعض، وربنا يديمها نعمة ويسترها."


هبّ الجميع بعدها نحو السفرة، ضاحكين، جائعين، متشوّقين.


أمل فرشت المائدة كأنها تفرش السلام.

سلطة خضراء، مكرونة بشاميل، بطاطس ساخنة، أرز بالشعرية، وكوب كبير من عصير الكركديه.


قال أنس وهو يجلس:


"أنا شايف إن الرجيم النهاردة لازم يتأجل."


رد إياد:


"أهو اعترفت... سجلوا عندكم يا جماعة."


ضحك الجميع، وفجأة، فُتح الباب بقوة، ودخل حسام، يحمل حقيبة على ظهره، وعرقًا على جبينه، لكنه كان يبتسم ابتسامة عريضة:


"السلام عليكم... ده أنا داخل على السفرة مباشرة من غير استئذان حتى!"


أمل، من غير ما تبص، قالت بحنيّة:


"روح اغسل إيدك يا حسام وتعال كل. متبقاش قليل ذوق."


جلسوا جميعًا.

كانت الضحكة صادقة.

وكان الحب صامتًا، لكنه محسوس في كل نظرة، في 

كل حركة يد، في كل دعاءٍ يُهمس بين لقمتين.


وفي قلب كل واحدٍ منهم، كان هناك وجعٌ ما... لكنهم تعلموا أن يتركوه على عتبة البيت، ولو مؤقتًا، ليأكلوا معًا، ويضحكوا معًا، ويشكروا الله على ما تبقّى من الطمأنينة.


تعليقات
banner: