pop: الفصل الرابع رواية دفاتر لا تخصّك
banner:
📁 آخر الأخبار

الفصل الرابع رواية دفاتر لا تخصّك

رواية دفاتر لا تخصّك الفصل الرابع 



"لكل هدف تحدي جديد، وعليك أن تعلم أن التحدي لن يكون سهلاً، لكن ليس من المستحيل خوضه. والعبرة تكمن في الصبر والمثابرة، إذ إن النجاح لا يأتي إلا لمن يواجه التحديات بشجاعة وعزيمة، ويؤمن أن الطريق مليء بالفرص التي تنتظر من يجرؤ على السير فيها."

كان اليوم رماديًّا كجدران المصحّة، رتيبًا كصفير الرياح التي كانت تتسلل عبر النوافذ الخشبية العتيقة.
داخل أروقة مستشفى الصحة النفسية الحكومي، كانت الدكتورة أمل عبد السلام تبدأ جولتها اليومية، تمسك ملفًّا بنيًا وقديمًا وقد تآكلت أطرافه من كثرة التداول.

امرأة في أواخر الثلاثينات، عيناها ثاقبتان كسؤالٍ لا يحتمل التأجيل، ملامحها حازمة، وصوتها يحمل نبرة الهدوء الذي لا يخلو من الصرامة. كانت تؤمن أن العلاج النفسي ليس فقط دواءً، بل احتواءٌ، فهم، وربما بعض الحقيقة التي لا يجرؤ المريض على النطق بها.

السكون يُخيّم على المكان، لا يُكسره سوى صوت المروحة العتيقة التي تدور ببطءٍ أعلى السقف.

دفتر صغير كان في يدها، تسجّل فيه بعض الملاحظات، حين دخلت "سلمى"، فتاة في منتصف العشرينات، ملامحها منهكة، وعيناها محاطتان بهالاتٍ سوداء، وكأنها لم تنم منذ أيام. كانت تمشي ببطء، تتفادى النظر المباشر، ويدها تعصر كمّ بلوزتها بتوتر.

قالت أمل، بنبرة هادئة:
"اتفضلي يا سلمى، اقعدي."

جلست سلمى مترددة، وقالت بصوت منخفض: "أنا... مش عارفة أنا بعمل إيه هنا."

ابتسمت أمل برفق:
"ولا يهمك، إحنا هنا عشان نساعد بعض. إيه اللي مضايقك؟"

سكتت سلمى لحظة، ثم قالت: 
"أنا بحس إني مش موجودة... بحس إني تايهة في دماغي. كل اللي حواليا بيكلموا، بس الكلام بيعدي كأن مفيش حاجة. مش بفهم مشاعري، وبعيط من غير سبب."

كتبت أمل ملاحظة سريعة ثم رفعت عينيها: "بتحسي كده من إمتى؟"

ردّت: "من وأنا في الجامعة... يمكن من سنة تالتة. بدأت أحس إني ماليش لازمة، وكل ما أصحى الصبح، بحس إن مفيش معنى لأي حاجة."

أمالت أمل رأسها قليلًا، ثم قالت بنبرة علمية لكنها قريبة من القلب:
"أنتِ بتوصفي أعراض ممكن تكون اكتئاب. بس مهم نفهم السياق أكتر. بتحسي بإيه تجاه نفسك؟"

قالت سلمى وهي تفرك يديها بعصبية:
"بحس إني فاشلة. كل الناس ماشية في حياتها، وأنا واقفة مكاني. بحاول أشتغل، بس بفشل. بحاول أحب حد، بس بخاف. كل حاجة فيها خوف."

أغلقت أمل الدفتر للحظة، وقالت:
"بصّي يا سلمى، الاكتئاب مش ضعف، ومش كسل. هو حالة ذهنية وبيولوجية، بتأثر على كيمياء المخ، تحديدًا على مادة السيروتونين والنورأدرينالين، اللي ليهم دور في تنظيم المزاج."

هزّت سلمى رأسها ببطء، فقالت أمل:
"أنا عارفة إن الكلام ده ممكن يكون جديد، بس لازم تعرفي إن دماغك محتاجة تتعامل معاها زي ما الجسم بيتعامل مع مرض زي السكر أو الضغط. محتاجة علاج، ومتابعة، ووعي."

تنفّست سلمى بعمق، وقالت بصوتٍ مكسور: "هو أنا ممكن أتحسّن؟ ولا هافضل كده طول عمري؟"

ابتسمت أمل، ووضعت يدها على طرف المكتب:
"التحسّن مش حلم، لكنه محتاج صبر وخطوات. أولهم إنك ما تخبيش مشاعرك. ثانيهم إنك تبقي ملتزمة بالعلاج، سواء دوائي أو نفسي. فيه حاجة اسمها "العلاج المعرفي السلوكي"، وده من أقوى الوسائل اللي بنستخدمها مع الاكتئاب."

رفعت سلمى نظرها لأول مرة، وقالت: 
"يعني حضرتك شايفة إن فيه أمل؟"

أجابت أمل بابتسامة دافئة:
"أنا اسمي أمل، ولازم أكون رمز للأمل. كل إنسان بيتولد وعنده قابلية للوجع، بس كمان عنده قدرة على الشفاء. دماغك مرنة، وبتتغير بالتدريب."

سكتت للحظة، ثم أضافت: 
"عارفة إن الناس ساعات تقول كلام زي 'شدّي حيلك' أو 'انتي بس بتفكري كتير'، بس الحقيقة إن الأمراض النفسية مش ضعف شخصية، دي اضطرابات حقيقية، ولها تشخيصات دقيقة حسب الدليل التشخيصي العالمي DSM-5."

"هو فيه فعلاً دليل للحاجات دي؟"

"أيوه. إحنا بنعتمد على معايير علمية واضحة. الاكتئاب، مثلاً، لازم يستمر على الأقل أسبوعين، ويشمل أعراض زي فقدان الاهتمام، ضعف التركيز، تغييرات في النوم أو الوزن، أفكار سوداوية، أحيانًا ميول انتحارية."

"أنا مش بفكر أنتحر، بس بحس إني مش عايزة أعيش. فيه فرق؟"

أمل هزّت رأسها:
"أيوه، ده فرق مهم. دي تُسمى 'أفكار انعدام القيمة أو الحياة'، وممكن تبقى بداية لمراحل أخطر لو ما اتلحقناهاش."

ظلت الجلسة مستمرة، وأمل تستمع وتشرح، وسلمى لأول مرة تشعر إن حد بيفهمها، مش بيحاكمها.

وفي نهاية الجلسة، قالت أمل:
"هندأ مع بعض جلسات أسبوعية، وهنبني خطة علاجية. وأنتِ مش لوحدك. المهم تبقي صادقة مع نفسك، ومعايا."

خرجت سلمى من الغرفة، وهي لا تزال متعبة، لكن بداخلها نقطة نور صغيرة بدأت تلمع، وكأن أحدهم أخيرًا قال لها: 
"أنا سامعك... وهساعدك."

كانت هذه بداية طويلة، لكن ضرورية، في رحلة تعافي عقلٍ أرهقته الحياة... فكان لقاؤها بأمل هو أول خيطٍ في نسيج النجاة.



مع اقتراب أذان المغرب، استيقظت روان من نومها المعتاد، بعد قيلولة قصيرة اعتادت أن تأخذها في هذا الوقت من اليوم. كانت قد أدّت فروضها ، ثم شعرت بجسدها يسترخي شيئًا فشيئًا حتى غلبها النوم.

فتحت عينيها على هدوء الغرفة، لا صوت فيها سوى صوت خفيف من التلفاز يأتي من جهة الصالة. جلست بهدوء على السرير، ومدّت يدها إلى وشاحها الذي وضعته إلى جانب الوسادة. وقفت، رتبت فراشها بعادة لم تتخلَّ عنها يومًا، ثم توجهت إلى الحمام لتغسل وجهها، وتجدد وضوءها.

خرجت روان من غرفتها بخطى هادئة، وكأنها تمشي على أطراف أصابعها. كانت تشعر براحة غريبة لا تعرف لها سببًا، أو ربما كان السبب بسيطًا؛ فهي تحب وقت المغرب، تحب الألفة التي تسكن البيت وقتها، وتحس بدفء لا يُشبه أي دفء آخر.
تحب الليل.

في الصالة، كان والدها، الأستاذ جلال، يجلس في مكانه المعتاد على الكنبة العريضة، ينظر بتركيز شديد إلى شاشة التلفاز التي كانت تبث مباراة بين الأهلي والزمالك. لم يكن غريبًا عليه هذا الانغماس؛ فهو أهلاوي متعصب منذ شبابه، ويتعامل مع كل مباراة وكأنها مصيرية. أما شقيقها، إسلام، فهو صورة طبق الأصل عنه في ذلك، وإن زاد عليه بالحماس والصراخ.

روان، بابتسامة دافئة، قالت وهي تقترب:
"مساء الخير يا بابا."

التفت جلال نحوها، وبدا وجهه وكأنه أضاء دفعة واحدة، مدّ ذراعيه لها وقال بنبرة يغلبها الحنان:
"مساء النور يا نور قلب بابا."

اقتربت منه واحتضنته بخفة، فضمّها إليه وكأنها طفلته الصغيرة، رغم أنها لم تعد كذلك منذ سنوات.

وفي تلك اللحظة، دخلت والدتها، هاجر، وهي تحمل صينية صغيرة عليها كوبان من العصير. ما إن رأت المشهد حتى رفعت حاجبها، وقالت بنبرة مازحة:
"هي مين دي اللي بقت نور قلبك يا جلال؟ نسيت مراتك ولا إيه؟"

ضحك جلال وهو ينظر إلى ابنته ثم إلى زوجته:
"هو في غيرها في القلب؟ دي روحنا يا هاجر."

وضعت هاجر الصينية على الطاولة، واقتربت من روان، فربّتت على كتفها بحنان وقالت:
"رورو حبيبة قلب أمها... تحبي تاكلي إيه النهاردة؟"

أجابت روان من غير تفكير، وهي تضحك:
"ملوخية!"

ضحكت هاجر وقالت:
"كنت حاسة
طيب من عنيا يا حبيبتي."

تدخّل جلال فجأة، دون أن يزيح عينيه عن المباراة:
"بس يا هاجر، خلي بالك من التوم... المرة اللي فاتت بطني فضلت تعصر فيا طول الليل!"

ردّت روان بسرعة وهي تضحك:
"هوّ أنت أصلاً مش بتحب الملوخية، كل اللي بيخليك تاكلها إن الأهلي بيكسب!"

رمقها جلال بنظرة مصطنعة الغضب، وقال:
"هو أنا  ربيت زملكاوية في البيت ده؟!"

ضحكت هاجر وقالت وهي تخرج من الصالة:
"ما هي طالعة لأمها برضه... إحنا بنحب الكورة الحلوة مش الألوان يا جلال!"

ضحك الثلاثة سويًا، وعمّ الجو دفء وبهجة. جلسَت روان إلى جوار والدها، وأخذت تراقب المباراة من بعيد، دون أن تفهم تفاصيلها حقًا. لم تكن عاشقة لكرة القدم، لكنها كانت تستمتع بمشاهدة والدها وهو يتفاعل مع كل لقطة، وكأن عمره كله معلق بالكرة.

بعد دقائق من الصمت الخفيف، قطعه صوت روان وهي تسأل:
"بابا، إسلام هيرجع إمتى؟"

ردّ جلال وهو يحرك الريموت في يده:
"قال لي إنه خلص شغله بدري النهاردة، وهيعدي على يحيى صاحبه قبل ما ييجي. يعني على المغرب كده هيكون هنا إن شاء الله."

هاجر، من داخل المطبخ، صاحت بصوت مسموع:
"يبقى ألحق أخلص الأكل قبل ما ييجي ويقعد ينفخ ويقول جعان ومهدود من التعب!"

ضحكت روان، ثم أسندت رأسها على كتف والدها في صمت. شعرت في تلك اللحظة بشيء من السكينة، بشيء من الانتماء.
بيت دافي، أم في المطبخ تحضّر ما تحب، أب يشاركها لحظات بسيطة لكنها ثمينة، وأخ كبير سيعود بعد قليل لتكتمل الصورة.

ربما كانت لحظة عادية... لكنها بالنسبة لروان، كانت كل شيء.
لحظة من السلام... من الحنان... من الأمان.




كان يوم الخميس، يومٌ لا يختلف كثيرًا عن غيره، لكنه يحمل عبء الدروس المتراكمة وضغوط الامتحانات القادمة. الساعة تقترب من السادسة مساءً، وحفصة لا تزال عالقة في زحام الطريق. جلست في مقعد الميكروباص، مستندة بجانبها على النافذة، تراقب أضواء المدينة التي بدأت تتلألأ مع اقتراب الغروب. في قلبها تعبٌ لا يختفي، وشعور بضيقٍ لا تملك تفسيرًا له، وكأن هموم الدنيا كلها متجمعة في ذلك المشوار القصير الذي طال أكثر مما كانت تريد.

بينما كانت تغوص في تلك الأفكار المتشابكة، دق هاتفها فجأة بنغمة "وعشنا في الخيالاتي". رفعت الهاتف ببطء، ورأت على الشاشة اسم والدتها. ابتسمت ابتسامة صغيرة، ثم أجابت بصوتها الهادئ المعتاد:

"السلام عليكم يا ماما."

سمعت صوت والدتها القلق وهو يتسلل بين الكلمات:

"وعليكم السلام يا بنتي، فين إنتي؟ الساعة دلوقتي بقت ستة ولسه ما وصلتيش البيت."

حفصة تنهدت، محاولة أن تخفف من حدة القلق في صوتها:

"أنا آسفة يا ماما، اتأخرت مع صحابي شوية، بس أنا في الطريق دلوقتي."

صمت للحظة، ثم قالت والدتها بصوت يكاد يشوبه التعب:

"حبيبتي، ممكن تجيبيلي لبن؟ حاسة إني محتاجة حاجة دافية كده وأنا قاعدة أشتغل على الورق."

شعرت حفصة بوخز عميق في قلبها، لبن! هذا الطلب البسيط الذي يحمل بين طياته دفء الأسرة وحنان الأم، هو ما يُشعرها بالمسؤولية رغم تعبها. ابتسمت قليلاً، وأضافت بصوت فيه لمسة حنان:

"طب أكيد يا ماما، هجيبلك لما أرجع."

أجابت والدتها بحماس خافت:

"بسرعة بقى، أنا مش قادرة أركز من غيره."

ضحكت حفصة بصوت خافت، رغم التعب الذي يعمق ظلال وجهها:

"ما تقلقيش، هبقى عندك قبل ما تحسي."

أغلقت المكالمة، وعادت عيناها إلى النوافذ المتلألئة التي تعكس أضواء المدينة في ظلام الغروب. حركت رأسها ببطء، تحاول أن تزيل عن نفسها ثقل التعب، لكنها شعرت بأن همومها أكبر من أن تُمحى بسهولة.

داخلها، كان صمت عميق يكتنفها. حفصة ليست من النوع الذي يضحك كثيرًا، ولم تكن تبدي مشاعرها بوضوح أمام الآخرين. كانت تختزن همومها وأفكارها، وتتركها تتجول في أركان قلبها بصمت.
شعرت بثقل يضغط على صدرها، وكأن الأيام تزداد ظلمة، وكانت تحاول أن تجد لنفسها بصيص نور، حتى ولو كان ضوءًا خافتًا يلوح من نافذة صغيرة في آخر الطريق.

كل كلمة طلبتها والدتها، كل نغمة في صوتها، كانت تذكيرًا بالحب والاهتمام، لكنها أيضًا كانت تثقل كاهل حفصة، تذكرها بكل المسؤوليات التي تنتظرها، وبكل التحديات التي تواجهها في صمت.

ومع اقتراب الميكروباص من محطة النزول، استعدت حفصة للنزول، تخيلت نفسها في البيت، تضع اللبن في كوب، وتجلس مع والدتها لتمسح عنها تعب اليوم بكلمات بسيطة ودافئة.

لكنها عرفت جيدًا، أن هذه اللحظات الصغيرة هي ما تحافظ على دفء الحياة رغم كل شيء.


تعليقات
banner: