pop: رواية دفاتر لا تخصّك الفصل الخامس للكاتبة منة الله بدوي
banner:
📁 آخر الأخبار

رواية دفاتر لا تخصّك الفصل الخامس للكاتبة منة الله بدوي

الفصل الخامس رواية دفاتر لا تخصّك 







 "في بعض الأحيان، يكون الصديق أكثر من مجرد شخص في حياتك؛ فهو ظهرك الذي تضع عليه همومك دون خوف أو شعور بالغدر. يصبح جزءًا من حياتك، ليس مجرد صديق، فوجوده يملأ حياتك بالأمان والطمأنينة."


كانت الساعة تتجاوز الثانية بعد منتصف الليل، والهدوء يغمر المكان كما لو أن الزمن توقف احترامًا لسكون الليل. الغرفة مظلمة إلا من نور القمر المتسلل من خلف الستائر، كأنه زائر لطيف جاء يواسي فتاة اعتادت الوحدة. جلست روان على الأرض، تحتضن نفسها كعادتها، تتأمل القمر من نافذتها الصغيرة. كم تحب القمر! هو وحده لا يخذلها، لا يصرخ، لا يخون، لا يكذب... فقط ينير لها طريق السكون.


تنهّدت بعمق، ثم غمغمت لنفسها: "يلا يا روان قومي... كفاية كسل." كانت معركة يومية بينها وبين نفسها. قامت بتثاقل، وتوضأت بماء بارد أيقظ روحها، ثم فرشت سجادتها الصغيرة، ووقفت تصلي.


في تلك اللحظات، لم تكن روان مجرد فتاة تصلي... بل كانت عبدًا يقف بين يدي خالقه، تهمس له بكل ما يعجز لسانها أن يقوله للبشر. كانت ركعاتها صادقة، دامعة، تهتز فيها روحها قبل جسدها، وكأن الصلاة كانت ملاذها الأخير.


انتهت من قيام الليل، وجلست على السجادة، تمسك بمصحفها، تقرأ آياتٍ طالما لامست قلبها في ضعفها:


> "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ..."


كررت الآيات أكثر من مرة، وكأنها ترقع بها فتق روحها، تبحث بين كلمات الله عن سبب لما تعانيه، عن عزاءٍ صادق، عن رحمة لا تنقطع.


في تلك اللحظة، دَخل إسلام الغرفة بهدوء، دون أن يصدر صوتًا. كان يعلم أن أخته تقضي ليلها بين القرآن والدعاء، وكان يحب هذا الصوت الهادئ الخارج منها، صوت ممزوج بالخشوع والدموع. جلس بصمت إلى جانبها، وأسند رأسه إلى ساقها كما كان يفعل وهو صغير. لم تلتفت له روان، فقط استمرت تقرأ، بينما كانت يدها تمرّ ببطء بين خصلات شعره الكثيف، تُهدئه وكأنها تُهدئ نفسها.


لكن فجأة توقفت عن القراءة. أحسّ إسلام بسكون مفاجئ، فرفع رأسه ونظر إليها. عيناها كانتا دامعتين، شاردتين، غارقتين في بحر من الأسى الصامت. دون كلمة، جذبها إلى حضنه، ضمّها بقوة، وكأنه يعوّضها عن كل الحضن اللي ما لقتهوش يوم احتاجته.


انفجرت بالبكاء، كأن كل ما كانت تكتمه من سنين قررت دموعها الإفصاح عنه.


همس إسلام بصوته الهادئ الغريب عليه، وكأن شيئا ما نزل على قلبه في اللحظة دي:


"بُصي يا رو، فاكرة إن ربنا خلقنا كده وخلاص؟ لأ، كل لحظة ألم، كل دمعة، حتى ضيقتك وانتِ ساكتة... ليها حكمة. ربنا مبيبتليش عبد إلا عشان يطهّره، ويرفعه. انتي غالية عند ربنا، وعشان كده بيطهّرك... بالصبر، وبالدمع، وبالسجدة. هو شايفك، وسامعك، وبيحبك..."


رفعت عينيها الباكية نحوه، وهمست بصوت مبحوح:


"أنا مش عارفة كنت هعمل إيه من غيرك، يا إسلام..."


ابتسم وقال وهو يحاول يخفف الجو:


"ولا حاجة، كنتي هتبلي كل التيشرتات بتاعتي من غير استئذان، وتخلصي المرتب على حاجات مفيش ليها لازمة، يا عيوطة!"


ضحكت روان، أول ضحكة من قلبها من أيام، وقالت وهي تمسح دموعها:


"القمر حلو أوي النهارده..."


نظر لها إسلام وقال ببساطة:


"أحلى من الشمس."


نظرت له روان بعينين فيها وجع وقالت:


"بس برضه، أكيد الشمس حلوة. تخيل كده أقعد على البحر الصبح، أفطر على النيل، أو أرسم البحر بضوء من غير خوف... من غير ظلمة... من غير وجع."


لاحظ إسلام إن الحزن رجع لعينيها، فقام بسرعة وقال بحماس مصطنع:


"طب قومي يا حلوة، نروح نشرب عصير قصب من عند عم حسن!"


ضحكت روان وهزت رأسها:


"حرام عليك بقى، كل يوم تخرجني، غير الحاجات اللي بتجبهالي... إنت فلوسك دي بتتعب فيها يا إسلام!"


رد إسلام وهو يربت على كتفها:


"فلوسي؟ التعب؟ ده كله يروح فداكي. يروح كل التعب قصاد ضحكة صغيرة منك... أنتي مش أختي بس، أنتي بنتي كمان... وحياتي من غير ضحكتك ولا تسوى حاجة."


نظرت إليه روان بعينين يغمرهما الحب والامتنان، وقالت بهمس:


"ربنا يخليك ليا يا إسلام، مش بس علشان إنت أخويا، علشان إنت الأمان الوحيد اللي فضلي في الدنيا."


كان الليل قد أرخى سدوله على المدينة، فبدت الشوارع كأنّها مغموسة في سوادٍ ناعمٍ يبتلع الأضواء والنفوس معًا. بدا الشارع كلوحة قديمة باهتة، تتمايل ظلالها تحت مصابيح خافتة، بينما الهدوء يسود المكان كأنّ المدينة كلها قد دخلت في نومٍ عميق. لم يكن ثمة صوت يُسمَع سوى وقع خطواتهما على الرصيف المبلل بندى المساء، وصوت ضحكتها الخافتة التي شقّت السكون كنسمةٍ جاءت من عالم آخر.


كان إسلام يسير بجوار روان، وابتسامة عريضة ترتسم على وجهه وهو يروي لها موقفًا طريفًا من ماضيه. كان صوته دافئًا، يحمل خفة لا تُفتعَل، وكأنّه يحاول أن يسرقها من كل ما يُثقل روحها. روان، في المقابل، كانت تضحك بخجل، تحاول كتمان ضحكتها كأنّها تخاف من أن يسمعها الحزن فيعود. لكن عينيها خانتها، فقد لمعتا بفرحة طفولية نادرة، كأنّها أوّل مرة تضحك من قلبها منذ زمنٍ بعيد.


وصلا إلى محل عصير صغير يتوسط شارعًا جانبيًّا ضيّقًا. كانت يافطة المحل تتدلّى من أعلى الباب الخشبي، وقد أصابها الزمن بالوهن، وتهتزّ على وقع الريح كأنّها تترنّح بين الحياة والانطفاء. المصباح فوقها يضيء ويخبو، كنبضٍ خافت يُصارع النهاية. ومع ذلك، كان هذا المكان هو المفضل لدى إسلام، يحمل له ذكريات لا يعرفها أحد.


قال بنبرةٍ خفيفة وهو يمد يده إلى الباب:

"يلا بينا نشرب قصب؟ الليلة طالعة حلوة وشكلها مستاهلة."


ردّت روان بابتسامة سريعة، وهي تحاول التماسك:

"ماشي… بس على فكرة، المرة دي أنا اللي هدفع."


ضحك، وفتح الباب الخشبي الذي صَدر عنه صوت أزيزٍ خافت يشبه أنينًا قديمًا:

"ولا تحلمي! أنا راجل كلمتي ما تنزلش الأرض أبدًا يا عيوطة."


في الداخل، كان المحل صغيرًا، دافئًا على نحوٍ غريب، تغمره رائحة القصب الطازج الممزوجة برائحة الخشب القديم. في الزاوية، جلس رجل مسنّ يُقلب أزرار راديو عتيق، ينبعث منه صوت مقرئ يتلو آيات من سورة الليل، فكان للصوت أثر مهدّئ، كأنّه غلاف من الطمأنينة يُغلّف المكان.


رفع الرجل رأسه، نظر إليهما لحظة، ثم قال بنبرة ودودة:

"اتنين قصب بالسوبيا ؟"


ابتسم إسلام، وأجاب دون تردد:

"زي ما انت حافظ، يا عم الحاج."


وقفت روان تتأمّل المكان بصمت، كانت تشعر بشيءٍ غير مريح. لا تدري إن كان سببه إضاءة اللمبة المهتزّة، أم صوت المروحة التي تدور ببطء فوق رأسها، أم أنّه تلك النظرات التي شعرت أنّها تلاحقها منذ أن دخلت.


رجل في الزاوية، يلفّ المنديل حول كوبه ويشرب بنهمٍ واضح، كان يرمقها بنظرة فاحصة، طويلة، كأنّه منها. وفي الخارج، مرّت سيدة عجوز أمام المحل، توقفت للحظة، نظرت نحو روان. ثم تابعت سيرها، لكنّها التفتت مرّتين إلى الخلف، تنظر وكأنّها غير مصدّقة.


التفتت روان إلى إسلام، وصوتها خرج مرتجفًا وهي تمسك بالكوب بيدٍ خفيفة الارتعاش:

"إسلام… في ناس بتبصلي بطريقة غريبة."


نظر إليها، ثم التفت حوله، محاولًا أن يتحقق. قال بابتسامة مترددة، يخفي بها شيئًا من قلقٍ لاح في عينيه:

"متخافيش… يمكن شكلك لفت نظرهم. أنتي مش قليلة الجمال يعني، دي حاجة متستغربيهاش."


ضحك، لكن صوته فقد خفته المعتادة، كأنّه يحاول طمأنتها أكثر مما يطمئن نفسه.


الهواء الليلي يحمل نسمات رقيقة تُنعش القلب دون أن تبرده. الشارع هادئ، تغفو المدينة إلا من بعض الأضواء المتناثرة هنا وهناك، وصوت أقدامٍ على الرصيف الحجري الرطب، يقطعه بين الحين والآخر صوت ضحكة خفيفة من روان، وهي تسير بجوار إسلام، أخيها.


وصلا إلى رصيف حجري منخفض أمام حديقة صغيرة، فأشار إسلام بيده:


"تعالي، نقعد هنا شوية... الجو حلو، والقعدة جنبك بالدنيا."


ابتسمت روان وجلست إلى جواره دون أن تنبس بكلمة، وأراحت ظهرها على السور القصير، ثم أسندت رأسها برفق، كأنها تبحث عن لحظة سكينة لا تأتيها كثيرًا.


ظل إسلام صامتًا قليلًا، كأنه يزن الكلمات في قلبه قبل أن تخرج، ثم قال بنبرةٍ هادئة:


"روان... انتي عارفة إنك مش بس أختي، انتي بنتي كمان. أنا شايلك في قلبي من زمان، من أول يوم شلتك فيه وإنتي طفلة وقلبي اتربط بيكي."


نظرت إليه وابتسمت في صمت، فأكمل:


"ضحكتك مش كاملة، نظرتك فيها حاجة مستخبية... وساعات بتحاولي تضحكي عشان تريحينا، وأنا واخد بالي."


رمشت بعينيها ببطء، وقالت بنبرة خافتة:


"أنا... مش عارفة أتكلم. كل حاجة جوايا متلخبطة."


وضع يده على كتفها برفق، وقال:


"عشان كده بقولك... لازم تكلمي حد بيفهم. مش عيب، بالعكس. ربنا سبحانه وتعالى لما بيقول: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾، دي مش بس في الدين، دي كمان في النفس والروح. فيه ناس ربنا رزقهم علم النفس، يقدروا يفهموا اللي جوانا ويساعدونا نرتب الفوضى."


قالت وهي تنظر أمامها:


"أنا فكرت في كده... بس كنت خايفة أبان ضعيفة، أو حد يقول عليا عندي حاجة."


ضحك وقال بنعومة:


"ضعف إيه يا بنتي؟ ده سيدنا يعقوب فقد بصره من الحزن، وسيدنا محمد نفسه اشتكى لربه من الضيق. هو إحنا أكبر منهم؟ ده حتى النبي قال لصاحبه في الغار: (لا تحزن إن الله معنا)... الحزن مش عيب، والطلب مش ضعف."


رفعت رأسها إليه، وعيناها تلمعان من أثر الكلام:


"طيب... هاروح. بس على شرط."


"شرط إيه؟ قولي يا ستّي."


"متقلقش عليا زيادة. يعني اطمن، بس ما تخلّيش ده يشغلك طول الوقت."


ابتسم وقال وهو يربت على كتفها:


"ربنا اللي بيطمن، وإنتي في ودايع الرحمن. وأنا وراكي، بس من بعيد، علشان تكملي الخطوة دي لوحدك... وتفرحي لما ترجعي وتلاقي نفسك أقوى."


ضحكت بخفة:


"هو أنا كده هارجع سوبرمان يعني؟"


"لا يا ستي، سوبر روان، ودي أقوى بكتير."


تبادلا الضحك لدقيقة، ثم أخرج من جيبه قطعة صغيرة من الشوكولاتة، ومدّها لها:


"اتفضلي، دي رشوة علشان تحبي اليوم ده وتفتكريه حلو."


أخذتها وهي تضحك:


"طيب يا عم... هافكّر!"


سكتا برهة، ثم قالت وهي تنظر إلى السماء:


"شايف النجوم؟"


"آه، منورة... بس نورها جاي من بعيد أوي."


"زيي كده؟"


"زيك بالضبط، نورك جاي، حتى لو متأخر، بس لما يوصل... هيغيّر حاجات كتير."


رفعت كفها ودعت بهمس:

"يا رب، 

قوّيني... وريح قلبي."


همس هو الآخر:

"آمين يا رب، آمين."


ثم نهضا سويًا، يسيران بجوار بعضهما، حديثهما خفيف، وخطواتهما مطمئنة، كأن الله قد زرع بينهما سكينة لا توصف.


تعليقات
banner: