رواية دفاتر لا تخصّك الفصل الثالث
"لكلِّ طريقٍ نهجٌ، ولكلِّ خُطوةٍ قائدٌ... أمّا أنت، فعقلك هو سيّدُ المسير؛ يوجّه أفعالك، ويهديك إلى الصواب ما دمتَ تُحسن استخدامه."
أغلق إسلام دفتره الجلدي، ووضع القلم بعنايةٍ فوق الغلاف.
كان الليل قد انسحب بهدوء، تاركًا خلفه ألوانًا باهتة من الزرقة، تلمع فوق جدران الغرفة.
في الخارج، بدأ ضوء الصبح يُزاحم الظلمة، كأنَّ النهار يحاول أن يتسلل خلسة إلى قلبٍ أتعبه الانتظار.
كان يعلم أنها لن تستيقظ مبكرًا، كما تفعل دائمًا، وهذا ليس أمرًا غريبًا... لكنه هذه المرة شعر بشيء غريب.
حُزنٌ لا يعرف له اسمًا، لكنه يعرف طعمه جيدًا. يشبه طعم البرد الذي يتسلل إلى العظام، دون أن يظهر على الجسد.
غادر غرفته دون أن يصدر أي صوت.
البيت كان ساكنًا كبيتٍ مهجور، وكل شيء فيه يصرخ بالغياب.
أمه نائمة. والده في عمله. أخته الصغرى ربما نائمة، أو ربما لا. لم يسأل. لا أحد يسأل.
دخل الحمام وغسل وجهه بالماء البارد، علَّه يُوقظ شيئًا داخله.
حدّق في المرآة طويلًا. كان وجهه باهتًا، كأنَّ الليل سكن تحت عينيه، وكأن النوم مرَّ بجواره ولم يقترب.
قال في نفسه:
"شكلي مرهق أوي… لازم أرجع أظبط حياتي."
لكن الحقيقة أن الحياة لم تكن بحاجة للضبط، بل للفهم. وهو كان يهرب من الفهم.
ارتدى ملابس العمل بصمت: تيشيرت أسود بسيط، فوقه قميص كحلي واسع، وبنطلون قماشي بلون رمادي مائل إلى السواد. لم يكن يهتم كثيرًا بالأناقة، لكنه يكره الفوضى.
أخذ محفظته، هاتفه، ودفتر ملاحظاته، وخرج.
كان الهواء نقيًا بشكلٍ غير معتاد.
الناس يمشون بخطى مُسرعة، وكأنهم يُطاردون شيئًا لا يُرى.
السيارات تتحرك في خطٍ واحد، أبواق متقطعة، ولافتات إعلانات تلمع بألوانٍ صارخة فوق المباني الرمادية.
لكن عينَي إسلام لم تكن ترى أيًا من ذلك.
هو يمشي، فقط يمشي، كأنَّه آلة تكرّر عادةً يومية دون وعي.
دخل من الباب الخلفي، كما اعتاد أن يفعل. لم يحب يومًا الأبواب الرسمية.
السكرتيرة ابتسمت له وهي تقول:
— "صباح الخير يا أستاذ إسلام."
— "صباحك ورد يا منار"
مرّ إلى الداخل، وتسلل إلى مكتبه بهدوء.
كان المكتب ضيقًا، تملؤه الأوراق، والصحف القديمة، وعدّة أكواب قهوة فارغة، لكنَّه كان يحبه.
فتح الكمبيوتر، قرأ بعض الرسائل، وبدأ يراجع مقالات الأمس.
كاد يغرق في عمله، لولا أن صوته المألوف جاءه من آخر الرواق:
"إسلام، أستاذ محمد عاوزك يا عم."
رفع رأسه، وردّ بنبرة معتادة:
"تسلم يا بودي… جايلك."
نهض بهدوء، طرق باب المكتب ثلاث طرقات، ثم دخل.
محمد، رئيس التحرير، كان جالسًا خلف مكتبه الضخم، يعبث بقلمه، ينظر من خلف نظارته بتفكيرٍ عميق.
"حضرتك كنت محتاجني؟"
أشار له بالجلوس، وقال بنبرة جادّة:
"إتفضل يا إسلام… الموضوع كبير شوية."
جلس إسلام، يضع ساقًا فوق الأخرى، منتظرًا أن يسمع ما وراء هذه النظرة.
"أنت طبعًا شايف البلد ماشية إزاي، وشايف المقالات اللي بتطلع من عندك بتعمل دوشة قد إيه."
"شايف، وآه… وبصراحة؟ تعبان."
ابتسم محمد ابتسامة جانبية وقال:
"وأنا كمان، بس ما فيش راحة دلوقتي. إحنا قدامنا قضية ياسين، الناس بتاكل بعضها عليها. كل قناة وكل صفحة بتتكلم… بس مافيش حد بيحكي الحقيقة."
"وأنا المفروض أكتب الحقيقة؟"
"أيوه، لأنك الوحيد اللي لسه بيكتب بقلم… مش بمزاج الجمهور."
"بس يا أستاذ محمد، الناس مش عايزة تسمع الحقيقة. الناس عايزة دم، عايزة انفعال، عايزة تشتم حد."
"أنا عايزك تكتب مقال يقلب الدنيا… بس مش بالصوت العالي، لا… بالعمق، بالفكرة، بالكلمة اللي توجع وتفوق في نفس الوقت."
"تمام، المقال هيكون عندك بكرة الصبح."
"أنا واثق فيك."
عاد إلى مكتبه
جلس إسلام على الكرسي كأنَّه يجلس على همّ.
فتح مستندًا جديدًا، راح يكتب… ثم توقف.
ثم كتب… ثم محا.
تملّكته الحيرة. الكلمات كثيرة، لكن الأفكار مكسورة.
صوت داخله يصرخ: "اكتب اللي جوّاك، مش اللي الناس عايزاه."
فكتب.
كتب عن وجع البنت اللي كلّ يوم بيتم اغتصابها، مش بس جسديًا… لكن كمان فكريًا.
كتب عن الناس اللي بتضحك على "الترند"، وهي مش شايفة إن الضحايا مش موضوعات للجدال، لكن أرواح.
في ركنٍ هادئ من المكتب، حيث يعلو طنين أجهزة الحواسيب وتتشابك أنفاس العاملين مع صوت الطابعات والهواتف، جلس إسلام وحده، تحدّق عيناه في الشاشة كما لو كان يبحث عن خلاصٍ ما.
أمامه كوب قهوة بارد، لم يعد يذكر متى صبّه، أو إن كان قد ارتشف منه شيئًا.
أنهى مقالًا سابقًا منذ أكثر من ساعة، لكن قلبه لم يعرف الهدوء.
كان يشعر أن ما كتبه لم يكن كافيًا، وكأن شيئًا ما بداخله لا يزال عالقًا بين صدره وأصابعه، يصرخ في صمت: "ما زال هناك ما يجب أن يُقال."
فتح ملفًا جديدًا، وأمسك بلوحة المفاتيح كأنها سلاحه الأخير.
بدأ يكتب، ثم توقف.
عاد فمحا، ثم كتب مجددًا، ثم تراجع.
كان يشبه من ينحت في صخرة بيدٍ مرتجفة، أو كمن يحاول الإمساك بظلٍ يتلاشى في الضوء.
مرت ساعة كاملة، وهو يُصارع الكلمات، يُمسكها حينًا وتفرّ منه حينًا آخر.
لكن، فجأة، هدأت يده، وبدت عيناه كأنهما قد وجدتا طريقًا في العتمة.
بدأ يكتب... لا، بل بدأ ينزف.
>ليست مجرد كلماتٍ ينطق بها طفلٌ في السادسة من عمره،
ولا مجرد دموعٍ تنهمر من أمٍّ تجهل كيف تحمي صغيرها.
ليست مجرد قطعة قماشٍ تُخفى بها ملامحُ طفلٍ مذعور،
ولا مجرد حكمٍ بالمؤبد، ولا إقالة مديرة مدرسة بعد عامٍ من الصمت.
كانت الكلمات تتوالى كأنها نُقشت في داخله من قبل، تنتظر لحظة الانفجار.
لم تكن حكاياتٍ يرويها لمجرد السبق الصحفي، بل كانت ندوبًا يحملها في قلبه، يعرف وجعها، ويكتبها كأنها له، لا لغيره.
> ليست مجرد كلبٍ قُتل على يد طبيب،
ولا فتاةٌ ذات سبعة أعوام تعرّضت للاعتداء في حمّام مسجد.
ليست مجرد قصة أخٍ قُتل دفاعًا عن شقيقاته،
ولا شابٍ سُفك دمه لأنه حاول أن يحمي فتاةً من يد معتدٍ.
كل قصة من تلك السطور كانت شبحًا يعرفه، ووجهًا لم يغادره منذ قرأ عنه للمرة الأولى.
إنه لم يكتبها من فراغ، بل من اختناق.
> وليست مجرد رجلٍ قتل جاره، وسار في الشوارع يحمل رأسه وسكينًا ملوثة،
ولا أبٍ ذبح ابنته ذات الثمانية عشر عامًا بيدٍ لم تعرف الرحمة،
ولا فتاةً كانت تحاول الفرار من سيارةٍ ثم فقدت حياتها،
ولا أخرى تعرّضت للاعتداء من ثلاثة ذئاب، ثم قُتلت ومُحيت من الذاكرة.
ثم، جاء الختام... خاتمة المقال، ولكنها بدت كأنها خطبة وداع، أو مرثية وطن:
> إنها ليست مجرد قضايا...
بل هي صرخات وطنٍ فقد الأمان،
وصرخة مجتمعٍ لا يعلم أفراده متى يحين دورهم في قائمة الألم.
> نحن الذين نقف في طابور الخوف والفقر،
في بلدٍ تُقدَّم فيه "مصلحة الدولة" على حياة أبنائها،
وتُنسى فيه الأرواح، وتُطوى فيه المآسي كما لو لم تكن.
أنهى السطور الأخيرة، وأسند ظهره إلى الكرسي.
لم تكن ابتسامته تلك إلا صدى مرير لقلبٍ أنهكته الحكايات.
قرأ ما كتب مرة، ثم مرة أخرى، وكأنه يخشى أن يفقد شيئًا منها إن أرسلها دون وداع.
وقبل أن يغرق أكثر في أفكاره، قُطع خيط شروده بصوت خطوات مسرعة، تبعتها ضوضاء خفيفة لأوراق أُلقيت على سطح مكتبه دون ترتيب.
رفع عينيه ببطء، ليجد عبد الرحمن واقفًا أمامه، يلهث قليلًا وكأنما كان يركض، وعيناه تلمعان بنصف ابتسامة ونصف استعجال.
"خُد يا عم، خلّص الورق ده بدلًا مني، عندي ميعاد كمان ساعة."
نظر إليه إسلام نظرة خاوية، مزيج من الإنهاك واللامبالاة، قبل أن يرد بابتسامة باهتة:
"ميعادك مع خطيبتك، مش كده؟ طب وأنا مالي؟"
ضحك عبد الرحمن وهو يضرب على طرف المكتب بخفة:
"يعني يرضيك بودي بودي يتْهَزّأ من كتكوتة؟"
رد إسلام وهو يتناول الأوراق بنبرة ساخرة:
"لا والله، ميرضينيش... بس ماشي، نشوف آخرتها معاكم."
أخذ الورق وهو بيهز راسه ببطء، ولسانه بيتمتم:
"الناس عايشة في فيلم، وأنا بكتب عن الكوابيس."
ثم أعاد نظره إلى شاشة الحاسوب، حيث لا تزال الكلمات ترقص أمام عينيه، صامتة وصاخبة في آنٍ واحد.
كان مقاله الأخير أشبه باعتراف متأخر، أو شهادة على عصرٍ غارقٍ في الدموع، فأمسك بالماوس ببطء، وتهيأ لإرساله إلى تيم.
لكنّه توقف للحظة، وأعاد قراءته، وكأنه يُودّع ألمًا ما زال حيًّا في صدره، ولم يجد سبيلًا إلا أن يكتبه.
قرأه بصوت خافت، كما يقرأ الأب على قبر طفله، قبل أن يضغط زر "إرسال"، مطبقًا جفنيه لبرهة، وكأنما أغلق بابًا خلفه إلى الأبد.